الخورأسقف بيوس قاشا     خوري رعية مار يوسف للسريان الكاثوليك

إلى شبابنا أبناء كنيسة الشرق المقدسة 

       1) إن المجمع الفاتيكاني الثاني يدعو الشباب "أمل الكنيسة"، فإنهم يحملون عهد الشباب الزاهر الذي  لا تنحصر مُلكيّته في جيلٍ معيّن، بل هو مُلْك البشرية جمعاء. والبابا يوحنا بولس الثاني يؤكِّد "إن للكنيسة أموراً عديدة تقولها للشبيبة، كما إن للشبيبة العديد من الأمور التي تقولها للكنيسة". وفي خطابه إلى الكرادلة في  20 كانون الأول 1985، قال قداسته:"يجب أن يشعر الشباب جميعاً بأن الكنيسة تواكبهم، لهذا ينبغي أن تشعر الكنيسة بكاملها، وبالاتحاد مع خليفة بطرس، بالمزيد من التزامها على الصعيد العالمي حيال الشباب، ومواضع قلقهم واهتمامهم وانفتاحهم ورجائهم، كي تستجيب لانتظاراتهم، فيما تخاطبهم باليقين الذي هو المسيح، وبالحقيقة التي هي المسيح، وبالمحبة التي هي المسيح".

      نعم، لقد أدركتْ الكنيسة، بفضل مساعي    الحبر الأعظم، إنه لم يعد بالإمكان الاكتفاء بالتخمينات والمماطلة حول رسالة الشباب، بل أصبح من الضروري خوض مغامرة الشهادة والكلام، لأن الشباب ينتظرون ذلك، ويرغبون في حضوره الحي. فقداسته يعضر على الشبيبة الحقيقة التي كشفها المسيح، ألا وهي: إن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، وفي الله تعالى يجد الإنسان ما يصبو إليه لينطلق في رسالة السماء. وفي الصدد نفسه يقول قداسة البابا بولس السادس (في رسالته ـ الكنيسة ؛ عدد 65):"لابدّ للكنيسة التي تفكر في جوهرها من أن تكتشف إنها مرسَلة، ولا يسعها إلا إعلان الإنجيل، وهو الخلاص الوحيد لعالمٍ يئس أيِّما يأس. فالواجب الذي يرتّبه علينا أرث المسيح إنما هو نشر الكلمة والتقدمة والبشارة".

      فالكنيسة إذن مدعوّة لتحمل رسالة الإنجيل في خدمة الإنسانية. وإنّ أكبر خدمة وأروعها التي يمكن أن تخصّ الكنيسة الشباب، إنما هي أن تقدّم لهم المسيح. فكل شاب يبقى أخاً افتداه المسيح من الموت، ويحمل على وجهه علامات الثالوث.

      2) إننا في الحقيقة ننتمي إلى كنائس عريقة، أسّسها الرسل فوق هذه الأرض التي شهدت مولد المسيح. فشبابنا مؤتَمَنون على تراث عظيم، وفي الوقت نفسه على مسؤولية جسيمة،. إذ يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: في هذه المنطقة من العالم سار إبراهيم، أبونا في الإيمان، ومعه ذريّته. على تراب هذه الأرض حقق الله مقاصد رحمته، فأرسل ابنه الوحيد يسوع الناصري ليخلّص العالَم، ليجمع شمل البشر. وقد قام الرسل بحمل الإنجيل إلى شعوب المنطقة، وفي أنطاكية أولاً دُعي التلاميذ مسيحيين (أعمال 28:11).

      وقد أتحَفَتْنا كتابات آباء الكنيسة والتقاليد الرهبانية بثروة عظيمة مستمدّة من التراث الإيماني الذي ينبغي على المؤمنين جميعاً أن يسهروا ويحافظوا عليه وبالخصوص شريحة الشباب، لأنّ التاريخ لا تكتبه الأحداث نوعاً ما من الخارج فحسب ولكنه يُكتَب قبل كل شيء من الداخل 00 إنه تاريخ الضمائر البشرية التي إمّا أنْ تنتصر وإمّا أنْ تندحر.

      نعم، إن شباب اليوم يعانون الكثير من المعضلات بجانب حياتهم الطبيعية، كما هو الحال في إيمانهم. فقد بدأت الخطوة الأولى تجاه الإيمان يوم العماد، فجعلت الكنيسة من كل واحد منا أيقونة، ولا سبيل لأحد أن ينقل الإيمان ما لم يكن متأصلاً في المسيح. ومن هنا تكون المشاركة في حياة الكنيسة لمشاطرة الحياة في يسوع المسيح. فشبابنا فئاتٌ مختلفة وصورٌ عديدة، فهناك فئة تنتمي إلى مختلف الحركات الرسولية في الرعية ولكنها تحتاج إلى مرشد روحي حكيم يكون عوناًً لمساعدتهم في مواجهة المصاعب. وفئة أخرى من الشباب تكتفي بالتديّن الذي لا يتعدّى الانتماء الاجتماعي، وهذه الفئة تحتاج إلى إدراك معنى رسالتها وما إيمانها عبر الدخول إلى عمق الحياة لتكتشف حقيقة الإيمان بالمسيح الحي. أما الفئة الثالثة فإنها تفتقر إلى النضج، فلا تستطيع أن تميّز بين القيم الإنجيلية وبين الذين يدعون إلى حملها، فيصابون بالخيبة، ويبتعدون عن الكنيسة شيئاً فشيئاً 00 هؤلاء الشباب يحتاجون إلى أن تكون لهم الكنيسة أباً حنوناً تفتح لهم الذراعين على شكل صليب، كما حضن المسيح جميع البشر ليلعبوا دوراً حاسماً في اختيار اللقاء الشخصي لإدراك معنى الانتماء إلى سرّ الكنيسة في مجتمع لا يزال مطبوعاً بآثار الحرب التي فُرِضَت علينا، والحصار الظالم الذي ينخر في عظام إيماننا، كما يهدم جدران حياتنا.

      3) نعم، كنيستنا اليوم بحاجة إلى شباب، والكنيسة الخالية من الشباب كنيسة يعتريها الصدأ. وكما يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني:"كنيسة بلا شباب 00 كنيسة بلا مستقبل". فالكنيسة جماعة بشرية تحتاج إلى حيوية أعضائها للاستمرار في الحياة استمراراً فاعلاً، ولإتمام رسالتها التي تقوم على حمل البشارة الجديدة إلى الآخرين،"اذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 19:28). ففي الكنيسة مواهب كثيرة، والدعوات منتشرة فيها، ومجموعات الشبيبة تشكّل اختياراً رائعاً للشابات والشبان الذين يفخرون بانتسابهم البنوي غلى الكنيسة، فهم بذلك يخدمون بكلّ قوة أمّهم الكنيسة.

      وفي نفس الوقت، نعم! شبابنا يسالون اليوم عن أنفسهم: أين مكاننا في الكنيسة؟ ما هي دعوتنا؟ هل الله يدعوني لتأسيس عائلة أم للكهنوت أم للتكريس؟ 00 لكل منا دعوة سامية، ودعوة المسيحي الرئيسية هي أن نكون أبناء أمناء للكنيسة مع الوعي الكامل لمسئوليتنا تجاه حمل بشارة الخلاص، من خلال حياة مسيحية مثالية في مختلف الميادين. فالكنيسة الشابة والملتزِمَة ليست كنيسة تتباهى بأمجادها السالفة، وتبكي على ما أخفقت فيه، إنما هذه من علامات الشيخوخة، ولكنها طاقة تتجدّد يومياً لتكون شعلة نور في الظلام (يو 5:1)، وخميرة في العجين (لو 21:13)، وملحاً في الأرض (لو 34:14) أينما كانت، لأن الكنيسة الشابة اكتشاف متواصل لعمل الله في الإنسان، والجميع مدعوون إلى المشاركة والمسؤولية المشتركة 00 فالكنيسة بدون شبيبة لا مستقبل لها، ومحكومٌ عليها بالتصلّب والجمود.

      والبابا يوحنا بولس الثاني يشدّد على الفكرة القائلة بـ"أنّ كل شاب عليه أنْ يساهم بأي نمو من الإنماء في ثروة الجماعة، وخاصة من خلال ما هو عليه" (فقرة 7). فأرضنا مهيأة خير تهيئة لعمل كنيسة مسيحية شابة، هدفها ملكوت الله لا ملكوت قيصر والمال (متى 21:22)، وفي إرسال يجعل شبابنا رموزاً لحمل البشارة لسواهم من الشباب. فكل جمود وتخاذل رسولي خطيئة بحق الروح القدس، وبحق البعد البنوي لكل دعوة مسيحية. وأما الخوف من التجدّد، فهو خوف من الروح الذي يعطي الحياة، لأن الشبيبة تستمدّ قوتها من الروح القدس الذي يعطي المواهب، وما على المسيحي إلا أنْ يستثمرها. إذ يقول بولس الرسول:"ولنا مواهب تختلف باختلاف ما أُعطينا من النعمة. فَمَن له موهبة النبوّة فليتنبّأ وفقاً للإيمان، ومَن له موهبة الخدمة فليَخدم، ومَن له التعليم فليعلّم، ومَن له الوعظ فَلْيَعِظ، ومَن أعطى فليُعطِ بنيّةٍ صافية" (رو 6:12-8)، ولا يمكن للإنسان من دون الله أن يفهم ذاته، ولا يمكنه من دون الله أن يحقق ذاته 00 إن هذه المواهب تجعلنا أنْ نعيَ بأنّ ما نبنيه اليوم في الكنيسة ومن خلالها سوف يؤثّر على المدى البعيد في مستقبلنا ومستقبل أولادنا.

      وفي الرسالة التي وجّهها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الشبيبة في 31 آذار 1985، أكّد على: إنّ الإنسان إذا كان طريق الكنيسة، فالشبيبة لها أهمية كبرى للإنسانية بحدّ ذاتها ولمستقبلها، وهي أملها الأساسي، إذ تحيا الأسرار التي نستقي منها اختباراً حقيقياً في الحوار مع الله.

      4) نعم، في أيامنا، كما في كل زمان، تحتاج الكنيسة إلى دعاة للإنجيل، خبراء في الشؤون الإنسانية. يفهمون قلب الإنسان المعاصر فهماً مُحْكَماً، ويشاطرونه أفراحه وآماله، ضيقاته وشجونه، ويكونون في الوقت نفسه رجال تأمّل، مشغوفين بالله. وهذا ما يؤكده قداسة البابا قائلاً: لابدّ من قديسين جدد ليبشروا عالَم اليوم. فكنيسة اليوم بحاجة إلى شهود حقيقيين ينقلون بشرى الإنجيل إلى كل قطّاع من قطّاعات الحياة الاجتماعية، منطلقين من داخل ذواتهم فعائلاتهم ثم مجتمعهم فالإنسانية جمعاء، ليتمكّنوا من إقامة دليل على إيمانهم ورجائهم، وهذا يتطلّب منهم إيجاد طرق جديدة لإعلان الإنجيل والولوج في الصلاة التي تفيد، بطريقة مباشرة. إذ يخاطب البابا يوحنا بولس الثاني الشباب قائلاً:"صلّوا، وتعلّموا أنْ تصلّوا. افتحوا قلوبكم وضمائكم أمام الذي يعرفكم أكثر ممّا تعرفون ذواتكم. تحدّثوا عليه، تعمّقوا في كلام الله الحيّ بقراءة الكتاب المقدس والتأمّل فيه. تذكّروا إن العلاقة بالله هي علاقة متبادَلَة، والله يجيب "ببذل ذاته" (يو 1:13) بذلاً مجّانيّاً تدعوه لغة الكتاب المقدس "النعمة". فاجتهدوا في أنْ تعيشوا إذاً بنعمة الله".

      فأنتم يا أعزائي الشباب، أمل هذه الأرض الطيبة، ورجاء هذه الكنيسة الأصيلة، والتي ترى ذاتها وترى رسالتها في العالم من خلال حياة المعلّم الصالح الذي يُرشدنا إلى طريق الحياة، فهو الشاهد الذي يجده الإنسان في الله ذاته، وشاهد على خلود الإنسان، وبه يحمل الإنسان، إضافة إلى كنز الشباب، كنز الضمير، وهو المستوى الذي يلتقي فيه الزمن والأبدية. فاهربوا من إغراءات الدنيا، وتأصّلوا في محبتكم لإيمان وتراب أجدادكم، فالكنيسة بلا شباب، كنيسة بلا غد، والويل لنا إذا جعلنا من يومنا هذا هو الغد، وأي غد سيكون؟، وإنما علينا أنْ تجسّ يدنا نبض الزمن، وأنْ نُميل آذاننا إلى قلب الله، أي أنْ نقرأ بدقة وكفاءة علامات الزمن، وأن نجعل من ذواتنا الرمز الشفاف لمحبة الله 00 فالويل لنا إنْ لم نَمِلْ بآذاننا إلى قلب الله لنُصغي إلى الكلمة الأزلية تفسّر كل صوت من اصوات التاريخ. والويل لنا إنْ لم تجسّ يدنا نبض الإنسانية لتلمس معناها، وتتابع التطور، وتفسّر التوق إلى ما هو جديد.

      فلنتوجّه إلى أمّنا العذراء، كما فعل العروسان الشابّان الجديدان في قانا الجليل، عندما أعوز الخمر في وليمة العرس، إذ خاطبتهم قائلة:"افعلوا ما يقوله لكم" (يو 5:2)، إنه هو المسيح 00 هكذا أكرّر اليوم قول أمّ الله:"افعلوا ما يقوله لكم المسيح، وحينذاك لا خوف على إيمانكم ورسالتكم" 00 ولا تنسوا يا أعزائي، إنّ المأساة الكبرى هي أن نرى الملح يَفْسَد، والنور ينطفئ، والمسيحي تائهاً دون رجاء حقيقي، ولا أمل في الحياة 00 أليس ذلك يا اخوتي، الشباب أبناء كنيسة أرض الشرق المقدسة؟.