لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

على هامش ختام السنة الكهنوتية

ما أعظمكَ يا سرّ الكهنوت!!

المونسنيور بيوس قاشا

 وهكذا اختُتِمَت احتفالات السنة الكهنوتية التي أعلنها قداسة البابا بندكتس السادس عشر في التاسع عشر من حزيران 2009 ولغاية الحادي عشر من حزيران 2010 ذكرى احتفال الكنيسة الجامعة بعيد قلب يسوع الأقدس و150 سنة على إعلان قداسة خوري آرس، وتحت عنوان "أمانة المسيح... أمانة الكاهن"... ومشاركة في هذا الاحتفال، دعا غبطة أبينا البطريرك موران طوبثونو مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان كهنة الكنيسة السريانية إلى عقد مؤتمر كهنوتي _ وبعد 37 سنة من انعقاد المؤتمر الكهنوتي السرياني الثاني (1973) _ وافتُتح المؤتمر برعاية غبطته في دير سيدة النجاة _ الشرفة يوم الاثنين 12 نيسان الماضي وحتى الخامس عشر منه، وتحت عنوان "دعوتكم أحبائي" (يو 15:15)، بحضور سيادة السفير البابوي في لبنان وبعض أساقفة الكنيسة السريانية الكاثوليكية. وتضمن احتفال الافتتاح صلوات وقراءات مستوحاة من الطقس السرياني، كما جاءت أعمال المؤتمر استكمالاً للمسيرة الكهنوتية، وعلامة تفاؤل قوية في حياة الكنيسة، ودليلاً قاطعاً على التصميم في إتّباع يسوع المسيح. كما ألقى غبطته كلمةً دعا فيها المؤتمرين إلى عيش زمن القيامة في عنصرة جديدة ليُدركوا خصوصية الدعوة الكهنوتية، وإن الكنيسة السريانية ما هي إلا شاهدة وشهيدة... كما جاءت المحاضرات التي أُلقيت واللقاءات والحوارات التي عُقدت في حلقات مستديرة، دافعاً أكيداً، حاملةً زخماً إيمانياً إلى المؤتمرين. وختم المؤتمر بقراءة بيان صادر عن المؤتمرين (اقرأ نص البيان صحيفة 16).

نعم، إن الدعوة عطية إلهية مميزة، فهي تجعل من بعض الرجال والنساء المدعوين خدّاماً وشهوداً للمسيح، في رحلة الحياة الطامحة للقداسة، والمليئة بحب الله للإنسان. فالله يبادر حراً إلى الدعوة وعلى الإنسان المدعوّ أن يجيب بحرية تامة إلى هذه الدعوة، والدعوة ليست حساب العبد المتسوّل بل استجابة سريعة لدعوة الرب يسوع، وأن يصبح المدعوون مشاركين بالمسؤولية في المسيح ومعه على دروب الدعوة الشخصية، كون المدعو يصبح شاهداً للفرح النابع من العلاقة الحميمة مع الرب من أجل تحقيق مشروع الله الآب الخلاصي.

نعم، دعانا المسيح ودعا كل واحد منا باسمه، لنكون حاملي رسالته الخلاصية إلى العالم كله، يدعونا لا لننغلق على أنفسنا، بل لننطلق إلى الآخرين وندعوهم إلى التوبة، لأن ملكوت السماء قد أقبل (لو 20:11)، وهو يسير معنا عبر طرقات الزمن المتعبة والملتوية. ومهما أهملنا دورنا، أو سقطنا من تعب الطريق، فالمسيح ينتظرنا دوماً لننطلق إلى الأمام، لننطلق من جديد في درب الرسالة.

فالكهنوت سر عظيم من أسرار الإيمان، والكاهن هو مسيح آخر. لأن الكاهن عندما يبارك، يبارك الله، وعندما يغفر، يغفر الله، وعندما يصلّي يتجسد الله. فالكاهن هو وكيل المسيح وتلميذه، فقد قال توما الأكويني:"إن عظمة وكرامة الكهنوت تفوق عظمة وكرامة الملائكة، لأن الكاهن هو الخليقة الأكثر عظمة بين كل خلائق الله العظيمة"... كما إن الكاهن شخص مميَّز في الكنيسة، وكهنوته يجعله أن يكون أخاً روحياً ومعلّماً وأباً، ويمنحه سلطان الحلّ والربط، وهذا ليس بقليل.

إن كان هذا هو الكاهن وهذه رسالته، وإن كان أمر الكاهن مع المسيح هكذا، فكم بالأحرى أن يكون الكاهن رسولاً أميناً لرسالته، وفيّاً لدعوته، ومقدَّساً بسيرته على مثال معلّمه، وعلى التلميذ أن يكون مثل معلّمه (متى 25:10).

يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر: إن الكاهن عندما يلفظ كلمة "نعم" أثناء سيامته الكهنوتية، فهو مدعو إلى السهر والحراسة إزاء قوى الشر المتلبّسة، وعليه أن يظلّ متيقظاً، ويقف مستعداً وجبينه عالٍ في مواجهة تيارات الزمن والعصر ليقول الحقيقة، ويجهر بها في عمله والتزامه لأجل الخير. لأن الوقوف أمام الله يعني حمل أثقال البشر على كتفه لدى الرب يسوع الذي يرفعها بدوره إلى الله الآب. كذلك يتمّم عليه حمل المسيح وكلمته وحقه ومحبته إلى العالم (البابا بندكتس 16، قداس تبريك الميرون والزيوت المقدسة، الخميس 20/3/2010).

إذن الكاهن بقوله "نعم" يصبح إنساناً مستقيماً، وعليه أن يكون جريئاً وجاهزاً لتحمل الإهانات في سبيل الرب، ليتمكن من ثم أن يخدمه متشبّهاً بالمسيح الذي أخلى ذاته حتى الموت على الصليب، فيكون بذلك شاهداً لحقيقة الخلاص وشهيد الطاعة لعمل الله الخلاصي.

فالمسيح ينتظر منا أمانة أسمى وأكثر تناغماً مع الخدمة الرسولية الموكلة إلينا. إنه يدعونا لنضلّ معه في غرفة خاصة، ويطلب منا فقراً أكبر، ووداعة الخادم الذي يجعل من ذاته خادماً للجميع وعبداً لهم. يطلب منا أن نكون قديسين، لأن القداسة هي الطريق الذي ينبغي أن تتبعه مسيرة الكنيسة الرعوية... وفي ذلك تكمن أهمية طاعة الكاهن لله والعمل بحسب إرادته القدوسة، ليس انقياداً للرغبات الشخصية. فخطيئة آدم الأصلية نبتت تحديداً عن رفضه لمشيئة الله، وحباً بتحقيق رغبته الشخصية المستقلة. وهي تجربة الإنسانية الكبيرة "لتكن مشيئتكَ لا مشيئتي" (متى 39:26)... هكذا يحيا الكاهن الذي كرّس نفسه بالكامل لله حريته، وسعادته في طاعته، ويغدو إنساناًَ ناضجاً، لأن الكاهن لا يخترع الكنيسة أو يصيغها حسب رغبته وإرادته، بل بالشركة والطاعة والكلام والخدمة معها، وهو مجال جوهري لخدمة الكهنوت.

إن وضع يد الأسقف على الكاهن علامة غير منفصلة عن الصلاة وامتداد صامت لها. إنه وقت وجيز ومفعم بالغِنى الروحي. وأثناء هذه الصلاة الصامتة يتم اللقاء بين حريتين: حرية الله الفاعلة عبر الروح القدس، وحرية الإنسان. فيتحول حينذاك رجاء الكهنة الثابت على الإيمان إلى رجاء خاص لهم، فيغدون شهوداً دائميين له وحاملي حكمة وسخاء، ودعاء وأقوياء.

الكاهن هو اليد الرقيقة، يمدّها يسوع ليلمس بها جرحكَ، وصوته هو صوت الرجاء والإطمئنان بمغفرة الذنب والفوز بالسماء.

اختارنا المسيح لنكون كبطرس ومتى ويوحنا وليس كيهوّذا الذي خانه... بتقاعسنا عن تأدية واجبنا، نخون المسيح ونسلّمه إلى الموت من جديد، وبانغماسنا في الرسالة نُنزله عن الصليب، ونضمّد جراحه الثخينة، ونعيد إليه الحياة التي يعطينا إياها حياة أبدية.

فنحن نحيا في عالم الله، وجماعة يسوع هي حيث يكشف الروح للمؤمن الخير والشر، فيستطيع تلميذ يسوع أن يميّز نور الله مهما طغت ظلمات العالم، ومهما تجبّر طغاته وأبرزوا براهينهم المناقضة لمنطق الله الذي كشفه لنا بالمسيح يسوع ابنه.

إن روح الله يريد أن يخلقنا دوماً من جديد على صورة يسوع ابن الله. إنه يريد أن يميت فينا سلطان رئيس هذا العالم الشرير، فيهبنا بيسوع الحياة والخلاص. روح يسوع مستعد ليكشف لنا إرادة الله وحكمته. فما علينا إلا أن نكون مستعدين لأن نفتح له آذاننا وقلوبنا، ولا نجعل صخب هذا العالم ووسائله الصارخة تمنعنا من رؤية ما يريده الروح القدس وسماع ما يأمر به.

لماذا نخاف إذا كان الرب معنا يسير، ومعه نسير على طريق البشارة لندخل قلوب البشر، ونعلن بشرى الخلاص. وإن الخلاص ليس إلا المحبة التي جعلتنا أن نهب ذاتنا بالمسيح للآخرين. وكما يقول الكاردينال هومس رئيس مجمع الإكليروس: إن الكنيسة بطبيعتها رسولية، فلا تكتفي برمي البذرة من النافذة، ولكنها تخرج من البيت وتعلم أنه لا يمكنها انتظار مَن يأتي إليها لتبشره وتعمّده، بل تمضي وتفتش عن الناس في الأُسر والقرى والمدن والمؤسسات وجميع قطاعات التجمع البشري، لأن الكهنة هم قوة دفع الحياة اليومية في الجماعات المحلية، فإذا تحركوا تحركت الكنيسة معهم، فهم بقوة سرّ الدرجة وعلى مثال المسيح الكاهن الأعلى الأزلي قد كرّسوا حياتهم لإعلان بشارة الإنجيل، كما يقومون بخدمة المصالحة نحو المؤمنين التائبين أو المرضى. وفي هذا يرفعون إلى الله الآب حاجات المؤمنين وصلواتهم (عب 1:5-4).

فمثلاً في سر الاعتراف، الاعتراف للكاهن ليس اعترافاً لإنسان بل للمسيح والكنيسة اللذين يمثلان الكاهن. فبكلمة الكاهن وبسلطان المسيح المطلق يمحو الكاهن بالتوبة للخاطئ التائب جرم الخطايا التي ارتكبها بعد العماد. لأن مبادرة الكهنوت مبادرة من فوق، من المسيح نفسه "لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم" (يو16:15).

فاختيار المسيح للكهنة هبة سماوية عليها تعتمد الكنيسة، وتعلم حقاً إنهم أهلٌ لكل كرامة على الرغم من الضعف البشري والتراخي الذي يصيب البعض أو العديد منهم، وإن باستطاعتهم بذل ذواتهم كل يوم في سبيل ملكوت الله حباً بالمسيح يسوع وبشعبه الموكول إليهم.

فالبشرى السارة التي أعلنها المسيح أوكلها إلينا من بعده، وستبقى تدوّي في قلوب الرجال المكرَّسين للكهنوت، والأمناء لدعوتهم، والأوفياء لرسالتهم، لذلك لا يخافون لأن الرب معهم دائماً، وبعونه يسيرون على طريق البشارة لكي يدخلوا قلب كل إنسان كرعاة صالحين، يبذلون أنفسهم للمشاركة في سر المحبة، ومتحدين دائماً عبر الصلاة والتأمل الشخصي، ليكونوا دوماً رسلاً حقيقيين للإنجيل... وهذه أقدس شهادة للحياة.

نعم يا رب، هب لنا رعاة يعملون باتحاد وثيق معك، ويعطوننا غذاء الحياة في حينه، عبر الصلاة والعمل.

نسألك يا رب ألاّ يفتقر أبداً شعبك إلى خبز الحياة، الذي يسندنا في مسيرة حجّنا الأرضية. ولتساعدنا مريم أمّ الكاهن، عذراء السماء، على أن نكتشف مجدداً ارتباط حياة المسيح بسرّ الإيمان الذي نحتفل به كل يوم، وأن يجعلنا علامة خلاص وقداسة. وما أجملنا نحن الكهنة نحيا القداسة، فالكاهن القديس يجعل أرضه سماءً، ويجعل أبناءه ملائكة... نعم، وآميـن.