نص موعظة الاب لويس قصاب

القاها في القداس الاحتفالي المقام  بمناسبة عيد القيامة

ليلة يوم السبت 15 نيسان2006 في كنيسة الطاهرة الكبرى

 

  

 

قيامة المسيح حدث رهيب وعميق، بأمكان الأنسان أن يغرق فيه متأمّلاً متسائلاً وباحثاً قدر ما يشاء.. قيامة المسيح تهزّ الكيان، وتبعث في النفس شلاّلاً هادراً من الرجاء، على الرغم من الظلم الذي يستبدّ بالأنسان والقلق الذي يقضّ مضجعه.. قام المسيح، على الرغم من الحقّ المهدور، والخيانة المؤلمة، والحقد الهادر، فقد قام المسيح.

 

كم من مرّة نظرنا الى الصليب الذي فَقدَ مصلوبه، أو الى صورة القبر الفارغ، وبقينا خارجاً، مِن غير أن ندخل لنتذوّق طعم القيامة.. كم من مرّة إحتفلنا بذكرى الفصح المجيد، وبقي احتفالنا روتينيا قد يكون صعباَ أن نقوم بخطوة إلى الأمام لندخل الى عمق القبر الفارغ، أو نغرق في معنى الفصح الحقيقي.. لِمَ لا نحاول أن نتقدّم ولو قليلاً بثبات وايمان لكي ندخل ونعاني عن قرب قوّّة المحبّة التي سحقت الموت، وبدّدت الظلام، ووهبت الحياة الحقّة لكلّ إنسان.

 

في أياّمنا هذه، بات الحزن سيّدَ الساحة.. بات القلق منتشراً، يعمّ مساحات واسعة من الوجوه والقلوب.. وغداً الفرح جوهرة ثمينة نادرة، يصعب الحصولُ عليها أو حتى رؤيتُها.. غريب هذا العالم، على الرغم من تطوّر العلوم والتقنيات الحديثة، وانتشار الأنظمة المعلوماتية التي تعمل في سبيل إسعاد الأنسان، كلِّ إنسان.. فإننا نجد بالمقابل مجتمعات ترزح تحت وطأة المعاناة  والقهر والسحق والألم.

 

لِمَ ازدادت المعاناة في عالمنا؟.. لِمَ حُرمنا من ملاقاة الفرح والطمأنينة والسعادة؟.. لِمَ معظم البشر غارقون في هموم الحاضر، غارقون بشأن المستقبل، يتحسّرون ماضٍ لن يعود؟.. هلمّوا لنسير معاً تحت راية انتصار الحق على الباطل، يرفعها المسيح المخلص الفادي ويحوّل أيامنا نشيد فرح وأرضنا سماءً.. زمن القيامة ينادينا لننفض غبار الموت عن بصائرنا فنرى مجد الحياة التي وهبها الله لنا بجودٍ ودفقٍ لا ينضب، حينها ننس كلّ الأردية واللفائف السوداء التي تذكّرنا بمجالس العزاء.

 

أولئك المحيطون بالمسيح يريدونه أن يبقى معلّقاً على صليب الكراهية، هم أنفسهم هؤلاء المحيطون بهذا المسيح الجديد القائم من القبر.. مازال وجهُه يشعّ حبّاً ودفئاً!.. مازالت عيناه تبشّران المؤمنين بالرحمة.. إنّه يرنّم بصوته المحب داعياً إلى الحب، وهو الذي لا يلعن صالبيه.. هو الذي ما ارتفعت يدُه في وجه قاتليه.. أجل، لم يكن مستسلماً، بل أراد أن يريَهم كيف يكون السلام، ولم يكونوا قد جلبوا الحرّية على طبق من ذهب إليه كما وعدوه.. لقد أحضروا له حريتّه كي يتعلّمها على أصولها، وضربوه لأنّه أخطأ حسب ظنّهم في فهم الحرّية.

 

علّقوه على الصليب لأنّه حاول جاهداً أن يضيء بقنديله تلك الطرق المظلمة التي شقّوها لأنفسهم وأرادوه أن يتبعهم في طرقهم المظلمة بينما هي خُطاه التي أرادت أن تقودهم إلى حيث النور، وهم الذين قالوا له اليوم "تعال اتبعنا إلى النور.. هوذا طريقنا"!.. أرادوا أن يطفئوا توهّجه وتألّقه.. أرادوا أن يطفئوا ذلك الضوء الأنساني الحضاري.. حطّموا ما استطاعوا من حكاياته.. من أمثاله.. من أغنياته.. من قصائده وتطويباته على الجيل.. مَزَّقوا ما تيسّر لهم من صفحات تاريخه وهو ربّ التاريخ وكلّ التاريخ هو هو.. وها هي أناجيله تلتهمها نيران التشويهات.. يريدونه أن يعود ليصلب من جديد ويوضع حجر كبير على قبره..

المسيح بقيامته لا يرينا يديه وجنبه بالجسد لكنّه يرينا نفسه في معاناتنا نحن.. يرينا يدَنا تتعب وتتعذّب.. يرينا صداع رأسنا وصدرنا.. يرينا نفوسنا تتعذّب من جرى تعامل الناس ومن ذواتنا ومن الخطيئة.. فهل نفرح إذا أبصرَنا يسوع المسيح في آلامنا، وفي مشاكلنا، وفي وحشتنا؟.. القيامة أمر صعب تصديقَه اليوم؛ ولكن شخصاً يُدعى توما قد لمس هذا الجسد القائم من بين الأموات، وفتّش عن موضع المسامير ووضع يده في جنب المسيح.. إنّ شكّ توما كان سبباً لأيماننا.. فمن أراد أن يحفظ إيمانه يجب أن يحافظ على قلبه، وأن يدخل إلى مخدعه ويغلِق الباب ويناجي الله بالصلاة.. فالأيمان بالمسيح شيء يُحافَظ عليه وشيء ينمو.. إذا ما جاهدنا وسعينا لنزيد إيماننا عن طريق الصلاة والمناولة والأهتداء، يسكن المسيح فينا ونُصبح خَلْقا جديداً "طوبى للذين لم يروا وآمنوا".

 

ايها الشباب، المسيح هو حيّ، هو عيسى الحي، وهو يسبقنا في كلّ أرض، على مفترق الأمم وفي ملتقى حضارات البشر وحواراتهم. "هناك تكتشفون حضوره الجديد".. لهذا، أنا أومن بقيامة المسيح حين أرى حولي أناساً يقومون على الظلم والعنف والأنانية. أومن بقيامة المسيح حين أرى الشعوب المسحوقة تقوم بوجه قوى الكذب والبغض. أومن بقيامة المسيح حين أرى الجماعات المسيحية تستنبط طرقاً تجعل الجميع يحسّون بالغفران والمحبة، يحسّون أنهم من أهل البيت. أومن بقيامة المسيح حين أرى شباباً وشابات يجعلون الحياة تقوم حولهم.. لا حتمية ولا تشاؤم، بل إنطلاق في بدء جديد، بدأه المسيح يوم أحد القيامة ونتابعه نحن حتى انقضاء العالم.

 

شكُّ توما هو شكُّ بحثٍ عن المعرفة للوصول إلى اليقين. فالقضية هي قضية حقيقية يقينيّة تمرّ عَبر الأختبار الشخصي الدافع والعلاقة الشخصية مع القائم من الموت.. ولابدّ من الشكّ لأظهار الحقيقة. وعند وجود الحقيقة يكون الفرح عظيماً، والتحوّل جذريّاً والأيمان مطلقاً؛ قال توما: "ربّي والهي!" وهو اعتراف فريد. الله يحترم معطيات كلَّ شخص، وعلاقتُه معه تكون شخصية وفريدة.. ليس شكُّ التلاميذ والرسل تمثيليّاً إنّما هو جدّي وهدفه الوصول الى الحقيقة والألتزام بها حياتيّاً بكلّ كيانهم.. لم يكن فهم التلاميذ عقليّاً وإنّما كان فهماً حياتيّاً وإيمانيّاً.. الأيمان هو حياة.. و في إيماننا بالمسيح القائم من القبر يشترك كلّ كياننا بالتزام كلّي وجذري.. ما بين الشكّ واليقين يكمن الأيمان والبُعدُ الحياتي.

 

إليكم ايها الشباب والشابات الذين يعانون من العولمة.. اليكم يا من تستهويهم البطولات والشهامة والتفاني أكثر من الحياة الرتيبة، ويتطلعون إلى بناء مجتمع جديد ومسيحية متجدّدة.. إلى مثل هؤلاء الشباب تطلق الكنيسة النداء تكراراً.. مثلُ هؤلاء الشباب قد لا تجد معاناتهم وتساؤلاتهم جواباً أشفى من اتباع صوت المسيح.. هذا الصوت الذي وحده يستطيع أن يحرّرهم من الفشل والضياع والخيبة والتشاؤم، ويزجَّ بهم في عالم البطولة في خدمة أخيهم الأنسان مهما كان شكله ولونه وعنصره ودينه.

 

إليهم أطلق هذا النداء: "إذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالأنجيل للخليقة كلّها".. إنطلقوا إلى كلّ أرض.. زفّوا البشرى إلى كلّ إنسان.. للمسيحيين إفتحوا ذراعيكم وقلوبكم واصرخوا: لا يمكن أن يفصلنا بَعدُ شيء.. وللناس من غير المسيحيين بيّنوا أن أموراً كثيرة ومتينة تجمعُهم وإياّنا وتجمعنا وإيّاهم وأنّ المسيح يحبّهم وليسوا بعيدين عنه.. وللأثرياء أوصوا أن لا يستاثروا بشيء أو يحتكروه ولا يطغى الجشع.. وللفلاّحين والعمّال صرّحوا أنّ أيديَهم التي تزرع وتبني وتُبدع هي مباركة.. وللعائلات أَوضِحوا أنّ الحبّ قداسةٌ، وأنّ الوفاء جمال، والتضحية جمال، والعطاء جمالُ.. وللشبيبة الطالبة المسيحية أُعطوا اندفاعاً وسخاءً وصدقاً، وللمهمّشين والمعاقين أحملوا بشرى القيامة والفرح والرجاء.

 

أوصيكم أحباّئي الشباب بفكّ القيود، أوصيكم بأطلاق النفس والعقل من الأقفاص.. أقفاصٌ كلّها تقيّد وتُسقم وتُذلّ.. القيودُ قيود، إلاّ قيداً واحداً هو قيدُ الحب أوصيكم به وإن كان من خشب، وإن كان من حديد أو رصاص وإن كان من ذهب.. واعلموا أن لا قيمة للحياة ولا جمالَ بغير الحب الأكبر.. الحب، الذي يشمل حبَّ الطبيعة وحبَّ الأنسانية وحبَّ الله". أيّها الشباب: كلُّ لقاء بالمسيح، أياّ كان لونه، فهو عيد.. وفي العيد ننسى الهمّ والتعب والوجع والخطايا ونستريح.. في عيد القيامة نحسّ بطعم الحياة ومعنى الوجود ويلتئم القلب الجريح.. وفي العيد نفرح بعد ضياع ونطرح كلّ سيّء وشرّير.

 

إن الذي دفنه الناس  يسير فيما بيننا حيّاً.. إنّه مسيح المسيحيين وعيسى المسلمين.. المسيح القائم من القبر يسير معنا ونحن نيام.. لكنّ عيوننا، وقد اعتادت على أن تراه على غير ما هو.. "لم تتمكَّن من معرفته".. السبت العظيم هو مساء الفصح!.. لكن لن يكون هناك فصح إذا ما تصلّبنا في الرأي وانطلقنا دوماً من "الخمير العتيق" ذاته.. تطهّروا من الخمير العتيق لتكونوا عجيناً جديداً" يقول مار بولس، لأنّ فصحنا، أي المسيح، قد مات.. إنّه حيّ لكن بنوع جديد.. وهو يسبقنا، لكن "إلى الجليل ـ أي إلى محلّ آخر ـ "هناك سترونه"، "ليس هنا.. ليس في القبر.. إنّه قد قام.

 

في يوم قيامتك يا سيّدي المسيح تدحرج الحجر الكبير.. بينما اليوم أراك صامتاً ونحن نستعيد هذه الذكرى البهيجة أن ترى رعيتك بكلّ كنائسها وطوائفها منقسمة ومتشرذمة.. تصلبك الفئة الأولى ثمّ تهلّل لقيامتك من بين الأموات، لتعود الفئة الثانية لتصلبك من جديد ثمّ تقيمك مرّة ثانية من بين الأموات.

سيّدي المسيح.. بغديدا (قره قوش) تجاوزت المحن وهي تبني وتعمرّ لكي تثبت للعالم: أنّنا هنا، وسنبقى هنا من أجل إسمك.. إننا نبني وسنواصل بناء الأنسان قبل بناء الحجر.. فالمسيحية حيّة هنا.. الكنيسة حيّة هنا، وستبقى حيّة ما دام ناسها أحياء.. وستستمرّ رسالتها على هذه التربة المشبعة بدم شهداء الأيمان.. تكمّل المشوار.. تكمل مسيرة الآباء والاجداد.

 

هذه الأرض المشرقية التي حطّها الله في هذا السهل الواسع الفسيح أفتتنتَ بها.. أحببتها حتى الشهادة من أجل إنسانها.. هلّم إذاً يا مسيحنا.. يا مسيح السلام والمحبة.. يا مسيح المسيحيين وعيسى المسلمين.. هلّم سر وسط الساحات والميادين والهياكل ولوّح بالحبّ والغفران والتسامح: "سلامي أعطيكم.. إفتحوا لي: أنا المسيح!.. طوبى لفاعلي السلام فإنهم بني الله يُدعون".. هلّم وابعث الناس خلقاً جديداً جميلاً.. فنحن نريد جمالاً.. نريد طهراً لهذه البلدة وللعراقيين أجمع.. هلّم، أنت صاحب الكلمة.. هلّم قل كلمتك: أنا المسيح القائم من الموت إفتحوا لي.. أنا دحرجت الحجر من فوهة القبر!.