Museum

متحف

فنانونا السريان

فن

رياضة

أدب

أعلام

أرشيف الاخبار

منتديات السريان

بريد القراء

موارد السريان

السريان

وقفة مع الأب يوحنّان جولاغ

الموسيقى الكنسية العراقية في مؤتمر موسيقي دولي

التحولات الموسيقية الجادَّة في العراق

 

تقديم الاستاذ الفنان باسم حنا بطرس

 

مدخـل

بداية أقول لستُ بصدد السرد التاريخي للحركة الموسيقية الحديثة في العراق، وبعيداً عن الإعادات والتكرار لما كُتب ونوقش في السابق، أتناول على هذه الصفحات صوراً قلميَّة للتحولات الموسيقية الجادة التي شهدتها الساحة "الثقافية" في عراق العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم؛ تلك التي كان للعنصر السرياني دوراً ريادياً فيها.

 

ما أتناوله هنا مستند على الوثائق التي أمتلكها، وعلى ذكريات الحوادث التي كان لي فيها شأن مباشر أو معايش.

 

مؤتمر بغداد الدَوْلي الأول للموسيقى (تشرين ثاني 1975)

 

اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى، هذا هو إسمها الرسمي، هيئة إستشارية عليا للثقافة الموسيقية في العراق ترتبط "إدارياً" بالدولة عن طريق وزارة الثقافة والإعلام، و"تنظيمياً" بالمجلس الدولي للموسيقى التابع لليونسكو (International Music Council - UNESCO) . فهي تسعى للرقي بذائقة المجتمع بتراثه الموسيقي، قديماً وحديثاً ومعاصراً، توثيقاً وفَهماً ونشراً وتعليماً، إلى جانب تطوير الثقافة والتعليم الموسيقيين.

 

ضمَّت اللجنة عدداً من كبار الموسيقيين ، وممثلي الدوائرالموسيقية العاملة في البلاد،. أما هيئتها الرئاسية فكانت مكوَّنة من: منير بشير، رئيساً، منذر جميل حافظ، نائباً للرئيس، وباسم حنا بطرس، أميناً للسر. ومن أعضائها السريان الأب فيليب هيلايي، غانم أيليا حداد، د. حسام يعقوب إسحق، العميد الموسيقي عبد السلام جميل، حكمت يوسف الزيباري.

 

فعاليات اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى:

كثيرة هي الفعاليات الكبرى التي نظَّمتها هذه اللجنة أو شاركت بها على إمتداد ربع قرنٍ من الزمن (فترة عملنا فيها)، التي لم تكن حصر مدينة بغداد، بل تعدَّتها نحو المحافظات العراقية الأخرى، ومختلف دول العالَم عربياً ودوليًا؛ من بين هذه الفعاليات تنظيم إحتفالات اليوم العالمي للموسيقى الذي إشتمل على تكريم رواد الحركة الموسيقية أساتذة وفنانين وباحثين، منذ تأسيس الدولة العراقية (المملكة العراقية سنة 1921).

 

مهرجانات متنوعة لكنها تخصصية، كما في مهرجان التأليف الموسيقي، مهرجان العزف المنفرد، مهرجان الغناء العراقي (للمقامات والغناء الريفي والبدوي، عربياً وكردياً وسريانياً)، ومؤتمرات علمية في الموسيقى العراقية والعربية بكل تنوعاتها.

 

إحتل (مؤتمر بغداد الدولي للموسيقى) موقع الصدارة بين الفعاليات الموسيقية الأخرى، على أهميتها، حيث أنه كان مؤتمر للموسيقى العراقية على مستوى العالم. وكانت أول دورة له في تشرين الثاني (نوفمبر) 1975. تضمَّن البرنامج العام للمؤتمر جولةً نحو مدينة الموصل باعتبارها مدينة تراثية عريقة في ثقافتها العامة والموسيقية، مروراً بسامراء والحضر، لزيارة مواقع الآثار وإقامة الدراسات البحثية موقعياً فيها. إشتمل أيضاً على إقامة فعاليات موسيقية في عدة مواقع منها، للغناء الموصلي، المقام العراقي، الغناء البدوي، والموسيقى الدينية التي إخترنا فيها فعاليتَين: قدّاس سرياني، ومنقبة نبوية.

 

أعمال المتابعة:

إقتضت أعمال التنظيم متابعتها فكنّا نقوم خلال الشهر الأخير الذي سبق موعد المؤتمر بزيارات أسبوعية رسميَّة للموصل، حيث إلتقينا أول الأمر مع نائب المحافظ الذي أطلعناه على البرنامج العام الموجَّه من وزير الثقافة والإعلام آنذاك. رحَّب بنا وحين علم أني أعرف مدينة الموصل جيداً، ترك لنا حريَّة الإتصالات مع كل الهيئات ذات العلاقة لإنجاح الزيارة.

 

كان لابد لنا أن نتحرك صوب معارفنا في المدينة: فالتقينا أولاً بالأب يوسف حبّي (في مطرانية الكلدان بمحلة الميّاسة عند كنيسة مسكنتا) مستطلعين رأيه حول إقامة القداس الطقسي، فرشَّح لنا إقامة القداس في كنيسة الطاهرة العريقة، على يد الأب يوحنان جولاغ (راعي كنيستي مار إيشعيا والطاهرة في الموصل، آنذاك) ليتولى إقامة القداس المقرر. كما قمنا بالتنسيق مع دائرة الثقافة الجماهيرية في الموصل (وهي من دوائر وزارة الإعلام) والتي كان مديرها الصديق الشاعر عبد الوهاب إسماعيل، فقام بكل ما أوكل بدائرته خير قيام.

 

كما قمنا بتنسيق بقية الفعاليات، وبخاصة للمنقبة النبوية، التي تولّى تنظيمها والمشاركة بها قارئ المقام العراقي الموصلي الراحل سيِّد إسماعيل الفحّام.

 

وهكذا كان موعدنا مع القداس:

إحتشد أعضاء المؤتمر والهيئات المرافقة من الصحفيين والإعلاميين والفنيين، مع جمعٍ غفير من أهالي الموصل فكان في إستقبالهم رهطٌ من الكهنة والشمامسة بأزيائهم الإحتفالية، يرحبون بالقادمين. إتجه الجمع ليحتل أماكنه داخل جدران كنيسة الطاهرة، ليشهدوا ويحتفلوا في القداس. قام أعضاء هيئة الترجمة الفورية للغات العربية والإنكليزية والفرنسية بالترجمة المطلوبة، وشاركهم فيها الأب فيليب هيلايي بالترجمة إلى اللغة الفرنسية.

 

إستغرق القداس قرابة الساعتين، بما إشتمل على الفصول الكاملة والتراتيل الكلدانية والعربية البديعة التي شارك في أدائها شمامسة الكنيسة وفتيات جوقة الإنشاد.

 

في نهايته، إلتفَّ المؤتمرون وبخاصة الأجانب، في جلسة حوار بشبه ندوة علمية مع الآباء جولاغ وهيلايي وحبّي وهيئة اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى، والجميع يُصغي ويسجِّل الحديث ومقاطع الترتيل بصوت الأب جولاغ، على أجهزة التسجيل اليدوية.

 

تم توثيق الفعالية بالكامل بالتسجيل المرئي والصوتي، والكتابات الصحفية العراقية والعربية والعالمية. إضافةً إلى الباحثين علماء الموسيقى من مختلف أقطار العالم، الذين وضعوا من بعد دراساتهم التحليلية على كل ما له علاقة بتراث الكنيسة الكلدانية موسيقياً وطقوسياً وليتورجياً، تم نشرها في أدبيات المحافل الموسيقية الدولية (كالمجلس الدولي للموسيقى في اليونسكو). كان الصحفي الصديق جميل روفائيل (على ما أتذكَّر) من بين هيئة الصحافة المشاركة بالتغطية.

 

أذكر بعض ما قاله الضيوف عن القداس:

كان من بينها قول الباحث المصري في الموسيقى الصوفيّة (محمد سليمان جميل – صحفي في جريدة الأهرام القاهرية، شقيق المغنية فايدة كامل)، قال بالحرف:

(أنا دِلوأتِ عرفتْ أنَّ صلاة العيد عندِنا في مصر جاءت من هذه الكنيسة

يقصد بذلك المقاميَّة النغمية المستخدَمة في التلاوات. قد يكون قوله مبالَغاً فيه بعض الشيء، لكنه مسنوداً بلا شك بما قام به ونقله من الموصل بالذات المنشد الصوفي الملاّ عثمان الموصلي، الذي كان هو الآخر ضليعاً بالمقامات العراقية والمقامات الكنسية، وهي التي تستند عليها ألحاننا الطقسية بشكل أساس.

 

 معرفتي بالأب يوحنان جولاغ:

كما أسلفتُ سابقاً، ما كانت لي معرفة شخصية سابقة بأبينا جولاغ، إلى حين إلتقيناه قبل وأثناء القداس موضوع بحث هذه المقالة.

ومنذ ذلك الوقت توطَّدَت علاقتي به فكنا نتزاور بين الحين والآخر وبخاصة فترة موسم أسبوع الآلام والقيامة كل سنة، حيث كنا نتوجَّه والعائلة إلى الموصل (أم الربيعين)، وهي مزدانة بجمال ربيعها الأخَّاذ، فنشارك إحتفالات خميس الفصح وجمعة الآلام (على مذبح الرب في كنيسة مار إيشعيا) لنبلغ الذروة في قداس ليلة سبت النور (على مذبح الرب في كنيسة الطاهرة)، مع قيامي بتسجيل صوتي لكل هذه الفعاليات، التي أحتفظ من بينها معي في نيوزيلندا تسجيلاً كاملاً لقداس سبت النور لعام 1984.

 

وصار أمراً طبيعياً أني كلما أزور الموصل (ولو ليوم واحد) لابد لي أن أزور أبانا يوحنان وأشقاءه الأصدقاء أندراوس وصباح بحضور والدته وشقيقته.

 

في أواخر الثمانينات، جاء إلى بغداد فاستقبلته في داري بمعيَّة الأصدقاء الآباء بطرس حداد، وجاك إسحق (المطران)، وفيليب هيلايي، في أمسية بديعة إختلط فيها الجدّ مع المرح؛ قمتُ خلسةً بوضع لاقطة (مايكروفون) جهاز التسجيل قريباً منهم وتم إختلاس الأحاديث التي تخللتها أداءات في الترتيل والكلام الحلو المليح.

 

وكان لي أيضاً لقاء آخر به في الموصل مع أبينا فيليب هيلايي، حيث جلسنا في دير مار ميخائيل، وجرى حديثنا في منحى التراث الكنسي للطقوس والألحان.

 

ومن هنا في نيوزيلندا، تحدثنا تلفونيّاً قبل بضعة شهور مع الأب يوحنان جولاغ في الموصل، وكان حديثنا دافئاً بالمحبة والإشتياق، وأمور الترتيل الكنسي. كانت نبرات صوته مختنقة؛ إذ قرر العودة إلى العراق بعد أن أمضى شهراً واحداً في أميركا. وكأنه إستشعر بدنو أجلِه!

 

 

الأب يوحنان جولاغ في ذمَّة الخلود
نعت الأخبار أبانا الراحل يوحنان جولاغ
وجاء في خبر النعي المنشور على صفحات موقعي عنكاوا وبخديدا

الكنيسة الكلدانية تفقد علما بارزا من اعلامها

ببالغ الحزن والاسى تلقينا نبا وفاة الاب والمعلم الفاضل يوحنا جولاغ ... وبرحيل الاب جولاغ تكون المسيحية قد فقدت علما من اعلامها الكبار الذي كان منارة للطقوس  الكنسية ... فقد عرف الاب جولاغ بإتقانه للمقامات الطقسية وترجمة الكثير منها  من اللغة الكلدانية الى السورث ... كما ولديه العديد من التسجيلات  وبصوته الشجي الحنون لمقامات كنسية وقداديس مع لفيف من الكهنة والمطارين واعذبها مع المثلث الرحمة الطران افرام بدي
 


وهكذا كانت ردَّة الفعل لديَّ لأكتب في الراحل نزراً لما يستحق توثيقه، ليس على سبيل الرثاء.

 

لقد كان حقاً ذلك المعلِّم المرشد الذي إمتلك بغزارة علمه وثقافته مدرسةً
 تحمل إسمَه وبخاصة في مجال الترتيل الكنسي، المنتهل من عمق الطقس وجلال
 الكلام وحسن النطق ورصانة النغم
وإني إذ تلقيتُ النعي لأجدنَّ فيه فاصلة زمن أنقطع حضورها، إنتقالاً إلى
 خلود الأبد تحدثتُ إليه تلفونياً قبل ثلاثة شهور، وكلانا في أقاصي البُعد؛ فتجدد الربط
 فيما بيننا، واستنشقنا معاً للحظات نسيم الحياة
ستكون لي وقفة، غير مبتورة، لأفتح لأبينا جولاغ سِفراً يؤرِّخ له نزراً من
 ملَكَته ولمحاتٍ من عطائه الجمّْ.

له إستحقاق مثل هذا وأكثر.
وكما كتبَ ولحَّن وأنشدَ، لنردِّد معه نشيدَه الخالد

(اللهم ارحمني)

 

الذي صار يُردَّد من قبل جوقتنا في كنيسة مار أدّي الرسول في نيوزيلندا،

والذي يقول نصُّه

اللهم ارحمني

اللهــمَّ إرحــمني    بحسـَبِ نعــمتِك   (2)

وبرحمتِك الواسـعة     أُمـحُ آثــــامي  (2)

إغسِلْني كثيراً مِن إثمي   ومن خطيَّتي طهِّرني (2)

فإني أعرِف آثامي  وخطايايَ أمامي في كلِّ حين

إليكَ وحدَك أخطأتُ     والشـرَّ قدّامـَك صنَعتُ

كلمات وألحان: الأب يوحنان جولاغ (الموصل 1984)

 

 

أجل، إنها وقفة مع الأب يوحنّان جولاغ

قد تلحقها وقفاتٍ أخرى من معارفِه، سيراً في حلقات توثيقية تؤرِّخ لفاصلة زمن من حياة كنيستنا، عبر واحد من رموزها المجيدين.

 

الصورة: من إحدى زياراته لداري في بغداد، جالساً إلى أبنائي

باسم حنا بطرس