نهلة إلياس ججو

التنوِّع في المواهب، والألق في سياقات الإبداع  وحديث عن نهلة ألياس ججو!

 

الفنان الاستاذ باسم حنا بطرس

كتبَت في أوكلندا (نيوزيلندا)

بتاريخ 9 حزيران/يونيو 2005.

 

توطــئة:

نهلة هو إسم لفتاة ناعمة جميلة المحيّا، كَفراشة تهفُّ بجناحيها دون أزيز؛ ولَجت ميدان الموسيقى من سنٍّ مبكرة، لتجذب إهتمام ومن ثم عناية الهيئات الموسيقية الرسمية في بغداد؛ فكان دخولُها تليمذةً للموسيقى في مدرسة الموسيقى والبالية ببغداد، مِن سن السادسة، لتتعلَّم العزف على آلة الكمان وعلوم الموسيقى، بالأسلوب الكلاسيكي الأوربي. فكان أنْ أختير لها، كما لأقرانها الأطفال الصغار، آلةَ كمان صغيرة الحجم، تلك التي ندعوها بـ (الكمان الطفل – Baby Violin) لتتمكن من الإمساك بها وتحريك أناملها الناعمة على أوتارها الأربعة. وهي في ذات الوقت، تلميذة في الدراسة العامة.

 في بغداد

أضواء البداية عند نهلة:

في مدرسة الموسيقى والبالية، الكائنة قبالة متنزَّه الزوراء ببغداد، كنتُ أشاهدُها بين مجاميع التلاميذ الأطفال، البعض يعزف على الفيولونسيل (الجلو)، والآخر على البوق (الترمبيت)، وغيرهم على البيانو، وهكذا لتجدَنَّ أولئك الصغار نحلاً ناعماً يتطاير حواليَ الزهور فيمتصُّ منها رحيقاً للشَهد فيتحول مِن ثمَّ عسلاً!

قد أكون سرحتُ بعض الشيء في إعطاء صورة وصفيَّة لما كان يحصل داخل جدران مدرسة الموسيقى والبالية التي تم تأسيسها في العام 1969، لتكون الدراسة فيها مزدَوَجة بين الدراسة التربوية العامة، التي تشتمل على المراحل الثلاث للإبتدائية والمتوسطة فالإعدادية (للفرع العلمي – حصراً).والفنيٍّة موسيقى عزفاً وغناءً ورقصاً للبالية.

كان على التلاميذ المشاركة بالفعاليات الفنية السنوية، بإقامة حفلة فنيَّة للعزف والغناء والرقص، لثلاث ليالٍ متتالية، على قاعة الشعب في الباب المعظم ببغداد، بحضور ذوي الطلاب وأهاليهم وأصدقائهم، فتقوم أجهزة الإعلام المرئية (التلفزيون) والسمعية (الراديو) والمقروءة (الصحف والمجلات) بتغطيتها بالكامل ومن ثم بثِّها تباعاً على قنوات التلفزيون العراقي.

من هنا يتَّضِح أنً الدراسة في المدرسة ما كانت للهواية في طبيعة مناهجها وبرامجها، دراسة جادَّة على يد أساتذة أكفاء يُستقدَمون من أوربا، الإتحاد السوفياتي وهنكاريا وألمانيا وجيكوسلوفاكيا، وغيرها. والدوام صباحاً للدراسة العامَّة والدراسة الفنية بعد الظهر.

 

هكذا كان الأمر مع نهلة التي شاركت في كافة فعالية المدرسة، فكان حضورها على المسرح ثابتاً بدون خوفٍ أو وجَل، وكأنك تشاهد عازفة محترفة لا تهاب مواجهة الجمهور. وبعد إنهائها الدراسة الثانوية في تلك المدرسة، والدراسة الفنيَّة فيها، إلتحقت بجامعة بغداد، كلية الهندسة، فشاء تنسيبها للهندسة المعمارية، وهذه بذاتها تخصص فني.

 

المهندسة المعمارية والفنانة الموسيقية نهلة:

كان أمراً طبيعياً للطلبة الذين عند تخرُّجِهم في المدرسة الإلتحاق إمّا ببعثات دراسية موسيقية علياً في الخارج، أو الإلتحاق بالدراسة الجامعية داخل البلاد؛ وبهذا صار لنا نوعان من خريجي الموسيقى والبالية: نوعٌ سيواصل عمله الفني ونوع ثانٍ يواصل دراساته العليا مع ممارسة جانبية للموسيقى، وغيرهم يتركون الممارسة لكنهم بالتأكيد يشكلون قاعدة للتذوق الموسيقي بين الشباب، فيحضرون الحفلات والفعاليات الفنية.

 

نشر وتنمية التذوِّق الموسيقي عند الجمهور:

في المقدمة من التشكيلات الفنية في البلاد، الفرقة السمفونية الوطنية العراقية، التي كانت تقدِّم تحت قيادة قادة إختصاصيين من الخارج (أوربا)، المؤلفات الموسيقية للمؤلفين الكبار أمثال باخ وموزارت وبيتهوفن وجايكوفسكي، وغيرهم، ومؤلفات لموسيقيين عراقيين أمثال حنا بطرس، عبد الرزاق العزاوي، منذر جميل حافظ، بياتريس أوهانيسيان، إكنس بشير، والتي تقدمها الفرقة للجمهور على مختلف القاعات، كالمسرح الوطني، ومسرح الرشيد إضافة إلى القاعات القديمة، قاعة الخلد وقاعة الشعب، وقاعات الفنادق الكبرى، شيراتون، ومريديان، والمنصور ميليا وفندق الرشيد. وكذلك على مسرح القاعة الكبرى لقصر المؤتمرات. إضافةً إلى عدد من المحافظات، نينوى، أربيل، السليمانية، البصرة، ذي قار. ليبلغ نشاط الفرقة السمفونية ذروةً متميزة في مشاركاتها في مهرجان بابل الدولي. وتقديم حفلات خارج العراق عربياً وأوربياً.

وإذ أشير إلى فعاليات الفرقة السمفونية بهذا الوسع، فلكَي اعطِ ملمحاً للقارئ عن الدَور الثقافي المتميز والكبير لهذه الفرقة في تقديم ثقافة موسيقية للمجتمع، وإنْ كان لونها من خارج ألوان الطَيْف الثقافي العراقي والعربي والشرقي.   فكان دخول بعض من خريجي المدرسة والعائدين من الدراسات الموسيقية العليا من الخارج، ميدان العمل في الفرقة السمفونية الوطنية العراقية، في مختلف أقسامها وحسب تخصصاتهم.

 

الألَق الإبداعي عند نهلة:

وهكذا بدأ مشوارها عازفةً للكمان في الفرقة السمفونية العراقية، كما عند أقرانها من خريجي مدرسة الموسيقى والبالية، ومعهد الفنون الجميلة. دخلت نهلة كعازفة مبتدأة ليتطوَّر أداؤها بشكل سريع، وتتخذ مكانها الطبيعي ضمن مجاميع الفرقة.

وإضافةً إلى عملها هذا، شاركت مع مجاميع موسيقية مصغَّرة، كفرقة سومر لموسيقى الصالة (التي ضمَّت كلاً من الأساتذة: فؤاد الماشطة وإحسان أدهم – فلوت، حسن حمد ونهلة إلياس – كمان، وأسعد محمد علي – فيولا، وباسم حنا بطرس – جلو، وبياتريس أوهانيسيان – بيانو) في حفلاتها داخل العراق وخارجه. وكذلك فرقة بغداد للموسيقى (التي ضمت الأساتذة: زيد عصمت ونهلة ألياس – كمان، محمد طالب – فيولا، احمد الجميلي – أوبوا، هشام إيشوع، كلارينيت، ونتاشا الراضي – بيانو).

 

نهلة الفارسة؟

أجل، لا نستغرب؛ فقد إلتحقت نهلة للتدرب على الفروسية في نادي الفروسية في الجادرية ببغداد، ولتصبح فارسةً خيَالة تمتطي صهوة جوادٍ، وشاركت في عدد من فعاليات النادي المذكور.

كنتُ أسألها، باستفزاز، عن مدى إستجابة المهر لها وهي تمتطيه؟ وكان جوابها دوماً ثقتها العالية بتحقيق ما تصبو إليه، في جديَّة وإصرار؛ أجل، كانت تشعر بانجذاب متبادَل بينها وبين الجواد المهر، فيستجيب لعنانِها دون عناد!

 

مزاوجة نهلة الموسيقية والمهندسة المعمارية:

في أول رحلة لها بمعيَّتي خارج العراق أواسط التسعينات، ضمن فرقة سومر لتقديم حفلات فنيّة في الأردن، حيث كان شقيقها المهندس فائز يقيم وعائلته في عمان بالقرب من دار سكني فيها. أخذتُها وقدَّمتُها إلى المعهد الوطني للموسيقى حيث كنت أعمل أستاذاً فيه، لتلتحق فوراً بالفرقة السمفونية التابعة للمعهد.

كانو وقتها موزَّعاً بين إنشغالها بالتدرُّب لمناهج حفلات فرقة سومرهناك، ودوامها مساءً في الفرقة السمفونية الأردنية، لتشارك معها في حفلاتها وبخاصة ضمن فعاليات مهرجان جرش. وإستطاعت أنْ تحصل على عمل كمهندسة معمارية في الأردن؛ لذلك وجدناها توزِّع أوقاتها بدقَّة بين كافة إرتباطاتها، وتحرص على تنفيذ واجباتها بالشكل الأمثل.

كما أنها شاركت عدداً من الفرق المسرحية العراقية كعازفة لتقديم موسيقى حيَّة أثناء عروضها المسرحية في الخارج.

 

نهلة اليوم؟

تقيم منذ مطلع الألفيَن في عاصمة الفن والذوق والجمال، باريس، تمارس عملها الهندسي، وإختصاصاتها الموسيقية تعليماً وعزفاً داخل فرنسا وخارجها، ضمن فرق موسيقية كبيرة للسمفونية، وتعزف الموسيقى في الكنيسة، وتسافر بين الحين والآخر للخارج كموسيقية ملتحقة بأوركسترا دوليَّة للشباب في حفلاتها في بلاد مختلفة، وكمهندسة لمتابعة تنفيذ عقد هندسي في مشاريع عمل خارج فرنسا.

أجل، وإنها اليوم صار إرتباطها بالأرض الفرنسية مؤسَّساً على نوعيَّة علاقاتها مع الناس الذي تلتقيهم وتعمل معهم؛ وهي تدرس بعناية مسألة إنتقالها للإقامة في كندا، حيث سيضطرها الوضع الجديد لحياتها هناك أنْ تبدأ من جديد لتأسيس مثل تلك العلاقات التي سعت وسعدت بها طيلة إقامتها في فرنسا: أتراها تضحّي بذلك في سبيل الجديد الآتي بالمجهول؟

 في باريس

نهلة - زيد عصمت  - آلاء والطفلة دينا

 وخير ما أختم به هذه الصورة الباناروميَّة عن نهلة، أقول بأننا كلانا مع عازف عراقي ثالث دعينا للمشاركة في مهرجان موسيقي عالمي يقام في سيئول في أواخر آب المقبل؛ في حال ذهابنا هناك، فستكون فرصة ثمينة أنْ ألتقيها ثانيةً، وهي التي نعتبرها في العائلة، كما هي تعتبرنا، إبنةً وفيًّةً لنا.

 

تلك هي نهلة: التنوِّع في المواهب،

والألق في سياقات الإبداع.