خواطر في الموسيقى

باسم حنا بطرس (تشرين ثانِ 2004)

حنا بطرس يعزف على الأرغن ذي المنفاخ الهوائي

في دار سكَنِه بالموصل مطلع العشرينات

أصل الفن :

كتب المؤلف، الموسيقار، الشماس الإنجيلي الراحل حنا بطرس (1896 – 1958) في مقدَّمة كتابه (تاريخ الموسيقى في العالم)، يقول:

{ متسابقان موسيقيان وُجدا منذ البدء ولما يزالا بتسابقٍ مستمر، وهذان المتسابقان هما البشر والطيور. فالبشر يغنّون مدفوعين بدافع الحب الذي يسير وراء الموسيقى، والشاهد على ذلك المائة أغنية التي أعدَّها (شوبان) استعداداً للإقتران بحبيبته (أورو) التي عرفها التاريخ باسم (جورج ساند) (1).

أما الطيور فتغرِّد، وفي مقدَّمتها (العندليب) الذي يصدح دائماً وخصوصاً في شهر حزيران (2). لكنَّ غناء الطير يتأتى عفويّاً، والإنسان فقط هو الذي يستسيغها فيقول في الجميل منها (تغريداً)، ويتشاءم من غيرها من الطيور (كما في الغراب) فيقول فيها (نعيقاً).

والطيور لها نغمات ثابتة لا تتبدَّل مألوفة لدى كل نوعٍ منها بالغريزة، وتتخاطَب بها مع بعضها بأوزان ثابتة لا تتغير، وكأن الطير في حوار مع قرينه.

الغناء الشعبي:

وحديث الغناء يقودُنا إلى أنَّ لجميع أمم العالم أغانيَ شعبية موروثة من الآباء إلى الأولاد والأحفاد. وهي أغاني بسيطة ليس فيها تراكيب بنائية كما في الموسيقى الفنية ذات التناسق المعروف بالهارموني (Harmony). لذلك تم تصنيف هكذا نوع من الأغاني في ما يُعرَف بـ (الفولكلور - Folklore) الذي لا يحتاج إلى التعقيد والتوزيع والهَرمَنة: لأن الشعب هو الذي أبدَعَها وجعل كلَّ فئة منها تؤدَّى في مناسبات، كأغاني الأفراح والأحزان والصيد والقتال والعمل: ومن أجملها الأغاني المرتبطة بالزراعة، ولعل أغنية (عمّي يا بيّاع الورد) خير مثالٍ من هذا النوع من الغناء الريفي العراقي (3).

كما هي الحال مع التلاوات الدينية ففيها الفولكلوري وفيها الفنّي؛ إذ لدينا في طقوس كنيستنا المشرقية الكثيرمن التراتيل الفولكلورية التي ما يزال الشعب يتغنَّى بها بفرحٍ وغبطة، كالترتيلة الشهيرة (بشمه دبابا بْرَوْما). وفيها التراتيل الفنيَّة كما في تلاوة (قانون الإيمان) بالمقام الكبير، أو ترتيلة (قدّيش) التي تمهِّد لتلاوة (الكلام الجوهري). وغيرها من الأمثلة كثير. (4)

أترك لشاعرنا الرصافي وصفاً شعرياً للموسيقى:

الموسيقى

نظم : معروف الرصافي                تلحين : حنّا بطرس

 

أنا الموسيقى أنا الموسيقى       جعلتُ عيشَ الورى أنيقا

يردُّ غصنُ السرور لَحني       بعد  الذُبول غَصّا ورِيقا

+++++

تا الله إنْ النفوس تصـدأ       وليس تُجلى بغير لَحني

لذاك أمسى في كلّ عصرٍ       يُعَدُّ أسمى الفنون  فنّي

+++++

إذا خطابَ الأرواحِ رمتُم                فخاطبوهـا بمُطرباتي

فالروحُ ليست تصيخُ إلاّ        إلى المغاني المرنحاتِ

+++++

إنَّ الأغاني  دروسُ  أُنسٍ       مهذباتٌ  بها  النفوسُ

إذا إدلهمَّت طرقُ المحابي       منها تجلَّت لنا شموسُ

+

الهوامش:

1-    فردريك شوبان (1810-1849) موسيقار بولندي، عاش 39 سنة فقط، إشتهر بأعماله المكتوبة للبيانو المنفرد والأوركسترا. عُرفَت صديقته أورو بإسم جورج صاند التي بادلته حبّاً بحب، وهي كاتبة وأديبة، ومديرة أعمال شوبان.

2-    العندليب نوع من البلابل، كنّا في صغرنا ننشد في المدارس الإبتدائية نشيداً بعنوان (العندليب)،

            يقول مطلعه:   سمعتُ  شـعراً للعندليبِ        تلاهُ فوقَ الغُصنِ الرطيبِ

                                إذ قالت نفسي نفس رفيعة       لن تهوى إلاّ حبّ الطبيعة.

3-    إشتهرت أغنية (عمي يا بياع الورد) في الأربعينات على صوت المغني الريفي – المديني حضيري أبو عزيز. من الظريف، أن لحن هذه الأغنية كان أول لحن إضافة إلى لحن نشيد العندليب المذكور أعلاه، تعلمت ُعزفَه من صِغري على البيانو.

4-    يزدهر الترتيل في كنائس العراق اليوم بالنتاجات الفنيَّة الجديدة سواء الوافدة من الخارج أو التي يلحِّنها وينتجها ملحنونا في البلاد. حتى صار إنتشار جوقات الترتيل في عموم كنائسنا يشكِّل ظاهرةً إستقطبت عناية الصغار والشباب وأخذ الشعب يعتاد على ترديد التراتيل الجديدة التي تؤديها الجوقات.

* نبحث في هذا الموضوع في حلفات قادمة. 

 

خواطر في الموسيقى والطرب

باسم حنا بطرس

فنان، باحث في علوم الموسيقى

نيوزيلندا – نيسان 2004 

مدخل:

 

مجد الموسيقى

دعاءٌ خاص، يقول:

" ربّي، إجعَلْني مؤلِّفاً موسيقياً قديراً، كَي أحتفي بمجدكَ عبر الموسيقى,,"

(أنتونيو سالْيَيْري)

 

الفنان الصادق:

"الفنان الصادق لا يتملكه تَكَبُّر ولا غرور، إنَّه يرى أنَّ الفن لا تُحِدُّهُ حدود؛ فالفنّان يبقى شاخصاً بنظره بُعْدَ المسافة التي تفصله عن بلوغ هدفه، برغم ما أنجزَه من أعمالٍ نالت إعجاب الآخرين بها.

لعلّه يشعر بالحزن لأن  نقطة البداية التي تقوده لعبور المسافة نحو العبقرية، ما تزال بعيدةٌ كَبُعْد الشمس،،"

(لودفيك فان بيتهوفن)

 

وأخــيراً :

بناءً على هذين القولين، نستطيع أن نطلق الأحكام ليس على المظاهر الموسيقية فحسب، بل المظاهر الفنية والأدبية والسلوكية التي تحيط بنا في أيامنا، وبخاصة تلك المرتبطة بمجتمعاتنا العربية،،،

إنها ليست الحكم الفصل المطلق، بل إنها مظهر من مظاهر الحداثة والتحديث، ومتاهات العَوْلَمة ،،،

 

لنتحدَّث عن الطرب والمطربين والمطرَبين:

 

إذا خطاب الأرواح رمتُم           فخاطبوها بمطـرباتي

(الرصافي الخالد)

 

خاطرة أم خواطر:

خاطرةٌ قد تبدو غريبة، بل مُسْتَغْرَبة حين نتاول بالبحث عن الطرب؛ فالطَرَب فِعْلٌ تَحَسُّسي ينشأ لدى الإنسان (حصْراً) عند استماعه للصوت الذي يؤنسه، فيؤثِّر في مزاجِه بجماليات التعبير الناشيء عن الأداء الفني الجميل.

ويبدو أن العرب يتفردون من بين فصائل الأقوام والشعوب باطلاق كلمة (مُطْرِب) على كل من (غَنَّى). وصار لهم عبر تاريخ الموسيقى العربية نجومٌ لامعة في الطرب الأصيل؛ برغم خلو مصادر الموسيقى العربية لهذه الكلمة الصفة.

كما أن للطرب شروطَه الملزِمة. ومن أوائل شروطه أن يكون اللحن ناشئاً من أرضية المقامية الشرقية للموسيقى العربية، مَبْنِيَّاً وفق أساليب التلحين المقامية وقوالبها، وأدوات أدائها (الآلات الموسيقية الأصيلة) أيضاً.

وأدوات الطرب هذه تتمثَّل في آلات القانون والعود والناي إضافةً إلى أدواتها الإيقاعية للطبلة والدُف – كما نشاهدها في الصورة المرفقة.

أما اليوم، فإنّ الذي يُلَحَّن في الموسيقى العربية اليوم (وبخاصة منذ النصف الثاني للقرن العشرين المنصرم) والمبني على النُظُم المقامية الثابتة (التي تندرج ضمن سلالم الموسيقى الأوربية)، وتؤديها مجاميع آليّة من مناشئ ثقافية غير عربية وغير شرقية، لا يتيح عرضُها للمستمع فرص التحسّس بالطرب، مع كلِّ ما يمتلك من قيمٍ تعبيريةٍ كبيرة تمنحه فرص التحسّس بالجماليات والإنطلاق نحو أعماق التأمل في أجواء اللحن.؛ لكنها – قد – تخلو من الطرب المقصود، إنْ لم تكن خاليةً منه تماماً.

 

خاتمتها:

أما لماذا افتتحتُ هذه المقالة بقولي [خاطرةٌ قد تبدو غريبة، بل مُسْتَغْرَبة] فناشئٌ من التقوّلات الكثيرة حول إتّهام الغناء العربي اليوم بالتدهور، التي يطلقها الناس سواء كانوا من فئة الموسيقيين والنقاد التخصصيين أم من الناس العاديين..  مع أنهم جميعاً يشتركون في التمسّك بإطلاق كلمة (مطرب) على كل من غَنَّى وهم يتراقصون ويتمايلون "طرباً مظهريّاً" على وقع إيقاعات الغناء السريعة والمهيِّجة، ويطلقون (آهات التنهدات). وكأنهم يعبّرون عن مدى (نشوتهم وتأثرهم طرباً).

فلئن كانت الموسيقى وصار الغناء العربي بالمستوى المتدنّي (حسب قول بعض الناس فيه، ولستُ أنا منهم)، فإني أتساءل:

لماذا هذا التهافت حتى بمستوى (الهلوَسة) في إقتناء المصنفات التسجيلية لما يقال فيها اليوم إنها (أغاني الشباب) والجلوس ساعات أمام شاشات التلفزيون، واليوم متابعة كل صرعةٍ من هذا النوع من الغناء عبر الإنترنيت، لو كانت متدنِّية حقّا؟

الجواب ببساطة يكمن في حاجة الإنسان العربي إلى ما يريحه "طـرباً".

لذلك، فالطرب صفة تفرد بها العرب في إطلاقها على الموسيقى العربية، وهي بالتالي تمثّل حاجة عند المتلقي للإنتشاء "طرباً".