في موسيقية الترتيل الكنسي المشرقي

باسم حنا بطرس

{خبير في الموسيقى الكنسية}

أوكلاند – 2002

جوق الشباب العراقي في أوكلاند

مرةً ووجهتُ بسؤالٍ تقدم به أستاذ تربوي مشهودٌ بثقافته، تعقيباً على إحدى محاضراتي في الموسيقى الكنسية التي أقدمها في مختلف المنتديات والكنائس والمعاهد، داخل العراق وخارجه. تناول السؤال بداهةَ [جواز أو عدم جواز استخدام (الموسيقى) مع العبادة في الكنيسة]. وتطور النقاش لسائلٍ آخر حول الموضوع  بمستوى (تحليل أو تحريم) الموسيقى  شَرْعاً؟

كانت التساؤلات (تراوح) في دائرةٍ مُفرَغة حول صحة أو عدم صحة  إدخال الآلة الموسيقية في الكنيسة: كما فعل (القس) الفلاني، وفعلت (الطائفة) العلاّنية.

وتطويراً لهذه التحقيقات، يتناول آخرون، ممن يرون في أنفسهم القدرة على الولوج في التفاصيل الحرفية (المهنية) الفنية للموسيقى، من حيث تعددية الأصوات (الهارموني) وكذلك من حيث تفاعل الناس وتذوقهم لها (جماليات الذائقة الفنية). كما يروِّج آخرون  بضرورة الخروج من (طَوْق) العتيق البالي من التراتيل السائدة (حسب قناعاتهم)، واستخدام التراتيل الجديدة.

ويدعو آخرون إلى (إلغاء) دَوْر (الشماس) من الخدمة، كما عند بعض كنائس الغرب، لأنه (الشماس) لا يمكتلك الذائقة الموسيقية في أداءاته، فتشكِّل مشاركته في الخدمة (خَدْشاً) للأذن وتُبْعِد الشعب عن أجواء العبادة.

ناهيكَ عن كَوْن اللغات المشرقية (كالسريانية، وهي لغة كنيستنا المشرقية)، فبحسب رأيهم بل قناعاتهم،   صار اعتبارها (لغةً غير محكية) ، وأنها تشكِّل بذلك عائقاً لجذب اهتمام الناس (الشباب بخاصة) نحوالمفاهيم المتَناوَلة في نصوص التلاوات، بحجة عدم فهم مضامينها.

 لا ضَيْرَ في كل ذلك. إذ  ليس في مثل هذه الطروحات، وغيرها كثير، ما يعيب. فللمتسائلين الحق كله في أن يتعرفوا إلى الممارسات التي تقام أمامهم، سواء كانت شعائرية أو فنية، كي يتعايشوا بأجوائها ويشاركون في الأداء الجماعي.

 

في الذكريات

المسنّون من أمثالِا يستذكرون الأيام الخوالي حين كانت كنائسنا العريقة (أم الأحزان في بغداد – للمثال) تغصّ بالشعب وبخاصة في قداس ما بعد منتصف ليلة عيدي الميلاد والقيامة المجيدين. في زمنٍ ما كانت فيه أجهزة تكبير الصوت معروفة. بل وما كان معظمنا (وأنا منهم) يعرف لغة الطقس السائدة في مجمل قراءات الخدمة. فكانت أصوات المرتلين من الإكليروس والشمامسة والصغار، ومن ثم الشعب المحتشد، تشكل مجتمعةً نوعاً من الجوقة الإنشادية الكبيرة (كما في الكورال، لكن بألحاننا المشرقية) فتنتشي بها النفوس بكل عفوية،  فكنّا نتلذذ بترديدها.

تُرى، أما كنّا صغاراً وصرنا شباباً، ونَمَوْنا داخل بيئة الثقافة العربية؟ سيقولون إنهم أبناء اليوم: الزمن الذي سادت فيه مفاهيم العَولَمة.

 

موسيقية الأداء الترتيلي

لكي نأتي بالإجابة المطلوبة على التساؤلات التي إبتدأتُ بها مقالتي، فالموسيقى، حسب علوم الموسيقى (Musicology) ليس مقصوداً بها (الآلة أو العزف الآلي حصراً). الموسيقى تَسْتخدم الصوت، أيّاً  كان مصدره؛ صوت الحنجرة نقول فيه موسيقى غنائية. وإن كان صادراً عن الآلة نقول فيها موسيقى آلية. بل ونذهب إلى أبعد من ذلك قليلاً لنقول بأن كافة الأصوات الصادرة عن الطبيعة والحيوانات والطيور والفعل الحركي، هي موسيقى.  كما في القراءة والحديث، مثلاً، تصبح موسيقى حين تؤدى  بشكل معبِّر جميلٍ.

من هنا، فالترتيل حتى وإن كان بدون مصاحبة آلية، يُعْتَبَر موسيقى؛ بل أنه يتربع قمة العطاء الموسيقي الإنساني.

 

جواز أو عدم جواز استخدام الموسيقى في العبادة

في ضوء ما تقدم فإن أداء القراءات والترتيل الإنشادي، والمصاحبة الموسيقية الآلية لها، مسألة  لا تحتاج إلى إجتهاد في إقرار جوازها أو تحريمها. وكما أن للقراءة والموعظة شروطَها في النطق والعَروض (وهي موسيقى)، كذلك للإنشاد شروطه توجب الإلتزام بها، . لأن للموسيقى الكنيسة وظيفة إضفاءٌ للجماليات التعبيرية في الأداء. هكذا جاء المزمور ليقول (رنِّموا للرب ترنيماً جميلاً).

 

ماهية الترتيل؛ ببساطة،

هو التلاوة المنغمة للنصوص الدينية حصراً. وقد قيل فيه "إنشاد" و"توشيح" و"ترنيم". وأقول فيه "موسيقى للعبادة". 

ومن هذا المنظور وغيره إعتبرها المجمع الفاتيكاني الثاني (موسيقى مقدسة) فأفرد لها فصلاً كاملاً مستقلاً في القرارات والأدبيات الصادرة عنه، محدداً لها شروط إعتبارها بهذه الصفة، من حيث إنتقاء أو كتابة النص الكلامي، وطبيعة المقامات المعتمَدة، والشكل البنائي لها.

 

في شروط ومواصفات الترتيل

الموسيقى (عموماً) ومنها الترتيل عملً تتداخل في بُنيته ريازة الشكل البنائي للكنيسة؛ فهي واسطة لإضفاء أجواء الجماليات التعبيرية في نقل الكلام المستنطَق إلى المتلقي (المستمع)، فيتأمَّل معانيه (الكلام) ويستأنِس النطق المنغَّم ليطلق حنجرته مشاركةً في الترتيل. فتعبق جماليات الخشوع إنعكاساً من صوت الجماعة المحتشدة بين جدران المعبد – الكنيسة.

هذه صورة ليست خيالاً؛ فالكنيسة (شأنها شأن أي صالة اجتماعات) يتطلَّب إنشاؤها معالجة ترددات الصوت الذي تعكسه بلاطات الأرضية وتسطّحات الجدران الملساء وعمق الأرضية عن مستوى إرتفاع السقف؛ فإما تكون الإنعكاسات متداخلة فتجعل الأصوات ضوضائية، أو على العكس من ذلك، تعكس الأصوات بوضوح: فيصل الصوت الناطق واضح الكلام، هادئ التنغيم، فتنتشي النفوس.

 

وماذا عن أركان الخدمة : / تتوزع الخدمة في كنائسنا المشرقية، بين :

                01 الكاهن

                02 الشماس

                03 الشعب

ومن ثم صار لنا ركن رابع يتمثل في الجوقة الإنشادية.

قد يُفترَض أن يكون الكاهن ممتلكاً حاسةَ سمعٍ مقبولة، لما يُعرَف بـ (الأذن الموسيقية)، وكذلك الشماس، الذي – في حقيقته – يعتبَر المحرك المحوري في الترتيل؛ الشعب ليس مفروضاً فيه أن يكون ذا أذن موسيقية مرهفة.

أما الجوقة، فحالها تختلف عن الآخرين: إذ يستوجب أن تكون مؤهلةً تأهيلاً نسبياً في الموسيقى، وليس فقط بما يمتلك أعضاؤها من أذن موسيقية. لأنهم وبمصاحبة الآلة الموسيقية (الأرغن) يقومون بمهام (قيادة) الإنشاد الجماعي.

 

وإذا لا يتوافر من يمتلك المؤهلات التحسسية؛

وفي مثل هذه الحال، يفضَّل قراءة النص بدون تنغيم، سواء كان من لدن الكاهن أو الشماس. وهنا يجب عليه أن يخضع لشروط القراءة كي يصل كلامه بصفاء إلى أذن المستمع.

 

أما بعدُ!

وخلاصة القول، أجل، إنها لكذلك [موسيقى مقدسة] التي يعرفها الغرب بـ

 [Sacred Music]

هاليلويا

 

باسم حنا بطرس

خبير الموسيقى الكنسية