Museum

متحف

فنانونا السريان

فن

رياضة

أدب

أعلام

أرشيف الاخبار

منتديات السريان

منتديات بخديدا

موارد السريان

السريان

قصّة الميـلاد

 

" فرح لا مثيـــل له "

ترجمتها عن الانكليزية : د . نغم داؤد اسحيّق

كانت مدينتنا الصغيرة تعجّ بالناس ليلة عيد الميلاد ، بحيث أن الشوارع والأزقة والمحلات والمخازن إمتلأت منهم بكثافة ، همّهم الوحيد هو أن يتزوّدوا بالمأكولات والفواكه والحلويات والهدايا قبل حلول المساء . زُينت الشوارع بأغصان الصنوبر والنشرات الكهربائية المضيئة والملوّنة وديكورات العيد من تماثيل المغارة وبابا نوئيل وجوقات المنشدين تشدّ الناس للاحتفال بهذا اليوم الخاص لإسعاد الأطفال به . وفجأة لدى حلول المساء ، صمتت تلك المدينة الصاخبة وهمدت كما تهمد العصافير المزقزقة على أغصان الأشجار لدى غياب الشمس في الصيف وكأنها لم تكن ! حقا لا يشبه أمر مدينتنا الآن ما حدث في بيت لحم عندما أحسّت مريم لتضع ابنها البكر .

 كانت تلك أيام التعداد السكاني في اليهودية والمدينة الصغيرة اكتضّت بالناس ، بحيث أن يوسف لم يجد مأوى في الفندق . كثيرا ما حيّرني أمر مدينتنا ، فالسكون التام والهدوء الكلي لا يطغيان عليها إلا في هذا اليوم من السنة . ولئن اختلفت أمور مدينتنا ومدينة بيت لحم الناصرية ، فالميلاد شيء والاحتفال بتذكاره شيء آخر . فسكون مدينتنا ليلة العيد لا يعكس إلا تقييمها لهذا الحدث الفريد ، فاذا عانت عائلة يسوع يوم ميلاده ، فميلاده في قلوبنا يجدر الاّ يحدث إلا بالصمت المتأمِل .

كان أحد المخازن الواقعة على تقاطع شارع النور بشارع النجاة مُنارا ... مُضاءا بشتى النشرات الملوّنة وكانت واجهتاه الواقعتان على تقاطع الشارعين مليئتين بأجمل تماثيل الميلاد المتحركة. فهناك قطار يدور حاملا فرق المعيّدين ، وتماثيل أطفال يتزلجون على الثلج ، وجوقات تنشد، وجرس كنيسة مصغّرة مغطاة بالثلج يدق بهدوء موسيقى أناشيد الميلاد و...و ...

وقف صبيّان في العاشرة من عمرهما ليستمتعا بهذه المشاهد اللطيفة . وبعد قليل أتى صبيّان آخران وقد جذبت فضولتهما زينة المخزن ، الواحد في العاشرة من عمره والآخر يصغره سنة أو سنتين. كان هذان الصبيّان هزيلين عليهما ملابس قديمة ووجههما الطريان حملا مسحة من الحزن ، على عكس الصبيّين الأولين وجميع أبناء مدينتنا ، فعيد الميلاد عندنا هو عيد الأفراح وتبادل الهدايا. لصق الصبي الأصغر جبينه على زجاج المخزن ليستمتع بتماثيله المتحركة وموسيقاه الناعمة حتى غطّى نَفَسُه الزجاجَ أمامه فالوقت كان باردا .

فجأة كسر الصبي الصغير الصمت السائد وقال لأخيه بصوت خافت : " هل لأننا فقراء لا يأتي بابا نوئيل عندنا في هذا الليل ؟ " داعب الصبي الأكبر خصلات شعر أخيه الأصغر وضمّه الى قلبه وقال : "آه .. لعلّه يأتي عندنا هذه المرّة إذا ما طلبنا من الله أن يرسله لنا !" ابتسم الصغير لهذه الفكرة الآنية ، أما الصبيّان الأولان فقد تصنّتا الى الحديث الخافت وشاهدا من زاوية أعينهما دمعة سارعت فأسترسلت على وجنة ذاك الذي خفّف من خوف أخيه الأصغر .

في كذا لحظات لا يعلم الا الله ما يجري في أذهان الصبية البريئين ! سار الأخوان المحرومان ببطء وكآبة عبر الزقاق المؤدي الى كوخهما الذي كانا قد اعتبراه بيتهما . بدون علم منهما ، سار الصبيّان الآخران خلفهما في ذلك الليل الساكن وهما يحملان امتعتهما على ظهريهما ولم يبق في الشارع أحدٌ مطلقا . في ذلك الزقاق الضيق دارت في خُلدَي هذين الصبيّين فكرةٌ رائعة : " لمَ لا نقتسم مع هذين الصبييّن ما سيهدينا إياه بابا نوئيل هذا المساء ؟ أجل هذا ما سنفعله ! " لدى وصولهما البيت ، هرع الصبيّان الأولان الى والدَيهما وبعفوية الطفولة كشفا لهما مخططهما الكبير . فامتلأ الوالدان فخرا بولديهما وسار في عروقهما شيءٌ من ذاك السخاء الأعظم الذي دفع الآب ليرسل وحيده الى الأرض ليفدي بني البشر المحرومين.

فجر عيد الميلاد فاق الصبيّان الكريمان ونزلا الدرج الى الطابق لأول من البيت بسرعة البرق ليتفاجئا بما أغدق عليهما بابا نوئيل من الهدايا والعطايا ، ومخططهما مستملِك على ذهنيهما . وأمام شجرة الميلاد الشاهقة اقتسما الهدايا من ملاعيب وملابس جديدة وحلويات وعيون والديهما مسمّرة عليهما . اقتسم الأولاد ما جاد به بابا نوئيل وفرزا حصتي الصبييّن الآخرين وفيهما من الملاعيب والهدايا ما يثير حماس الطفولة البريئة ثم وضعاها في أكياس ملوّنة.

وقبل أن يصبح صباح العيد حمل الأولاد تلك الهدايا على كتفيهما واتّجا نحو ذلك الكوخ الجاثم في نهاية الزقاق . لدى وصولهما الباب وضعا في مدخله الكيسين الملونين تفيض منهما الهدايا ثم عادا الى البيت مسرعين . يا ليت تصوّر هذان الصبيّان كيف عبّر الصبيّان المحرومان عن سعادتهما في صلاتهما الى الله ، لدى اكتشافهما بأن بابا نوئيل حقا جاء عندهما !! وما بابا نوئيل الا روح العطاء المجاني المفعم بالحب .

في مساء ذالك اليوم ، عندما خَلُدَ " بابوات " نوئيل الى مضاجعهم مرهقين ، داعبت أصابع والد الصبييّن الطيبّين شعرهم الكثيف بحنان وفخر ، بعد أن خرجا من ذاتيهما الغضّين وانطلقا الى من هم أقلُ حظّا منهما . آنذاك اكتشف الصبيّان الفرحَ الأعظم من كل الأفراح التي يفيضها علينا عيد الميلاد.