لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

وعدالله ايليا

 

الشيخ داؤد عكلة

 

الموضوع منشور في العدد (34) من مجلة النواطير

 

 

من الذاكرة الخديدية

 

(القسم الثالث والأخير)

وعدالله ايليا

E: Waad_alla@yahoo.com

 

مُعمّر يستعيد ذكريات عمرها 100 عام..!.

أعزائي القُرّاء.. في القسم الثالث من بحثي وتحقيقي هذا عن الشيخ الخديدي داؤد عكلة أقول لكم وبصراحة تقع عليَّ اليوم مسؤولية كبيرة عن كُلِّ كلمة أقولها في موضوعي هذا في نقل الحقائق والوقائع بصورة صحيحة وخاصة أنَّ المصادر والنصوص والوثائق غير متوفّرة بشكلٍ كافٍ تحت تصرفي، لذلك إرتأيتُ أن أعتمدَ على ذاكرة شهود العيان الذين واكبوا شيخاً خديدياً كبيراً عاشَ في ديارهم وتفاعل معهم برباطة جأشه وقوة إنطباعه الناتج بذات الوقت عن قوة أمانته وذلك لإستخلاص أكبر قدر ممكن من المعلومات. مهما تكون الصعوبة وجسامة هذا العمل فقد آليتُ على نفسي أن أقوم بهذه المهمّة الكبيرة معتمداً على إمكانياتي المتواضعة وعلى الذين وقفوا معي وآزروني ولهم مني كُلَّ الثناء والتقدير في خدمة التاريخ الخديدي العريق وبلدتنا العزيزة بغديدا (قره قوش) التي هي أمانة في أعناقنا جميعاً وبمحبة أود أن أكون أميناً وحريصاً للكلمة الصادقة ومخلصاً في كُل ما أنقله للأجيال القادمة.

 

 

في يوم الجمعة الموافق 20/حزيران/ 2008 كانت لي رحلة في قرية (الخضر والبساطلية) رافقني فيها إبن شقيق الشيخ داؤد السيد (فرج الياس زاكي)، ومصور مجلّة النواطير زميلي العزيز متي الكذياوي الذي يوثّق بكامرته الساحرة لقاءاتي الحيّة مع شهود العيان ويُعزِّز تحقيقي أينما ذهبت. من خلال تجوالنا في القرية إرتسمتْ أمام مخيّلتي علامات كبيرة بحثاً عن ضالتي وصدفةً تلتقي عيناي بعد جُهدٍ جهيد بما أُريد حيث قادنا شابُ بساطليٌّ شهمٌ يُدعى ثائر إسماعيل الدليمي إلى دار صديق مخلص وصدوق للشيخ داؤد والذي لحُسن حظنا لا يزال على قيد الحياة ويتمتّع بالحيوية والنشاط. فلنسمع إذن صوت الزمن والحقيقة لشاهد العيان وأهل الوفاء، إنه السيد عبدالله محمد محمود محمد الدليمي، من مواليد قرية الخضر والبساطلية أي وكما يقول من مواليد سنة الغلاء عام 1917، متزوّج من السيدة شكرية محمود عويّد الدليمي، له بنتٌ وحيدة إسمها (صبرية). حين تحدّثتُ معه لم أشعر إنني أمام أحد أكبر المعمّرين في القرية، ما زال يتمتّع بذاكرة تستعيد مئات القصص والقضايا التي حدثت خلال عمره المديد يرويها لي وكأنّها حدثتْ منذُ أشهر قصيرة مع أن عُمرها تجاوز القرنْ.

 

 

عندما كنتُ أُحاوره كان يشرب القهوة بأفراط وسط عائلته قائلاً لي بحزنٍ وأسف: لم يبقَ لي أحد من أصدقائي كُلّهم غادروا ولم يبقَ منهم سوى الذكريات أستعيدُها طيلة يومي الحزين الذي يبدو لي الآن أنه هو الآخر طويل. يصمت قليلاً العم عبدالله ويجهش بالبكاء ويعرف مغزى زيارتي له ويتحدّث عن صديقه المخلص الشيخ داؤد عكلة وما قام به من أعمال جليلة في قريته والقُرى المجاورة لها. قبل قرنٍ من الزمان كانت قريته مجموعة صغيرة من الدور الطينية محاطة بمستنقعات تمتدُ على مدى البصر، وكانت آنذاك الحمير والخيول وسيلة للتنقل بين القُرى. ويُضيف المُعمّر عبدالله الذي لم يتوقف عن البكاء قائلاً: لقد كان إسم الشيخ داؤد (أبو ألياس) يرنُّ في مجالسنا وقُرانا حيث عِشنا مع إخواننا المسيحيين المتواجدين في القرية في ظلِّ علاقات جيدة تسودها المحبة والإلفة وروح التعاون، كُنّا ننتسب لجيل نقي لا يعرف التفريق. وعن شخصية الشيخ داؤد يؤكد (أبو صبرية) بأنه كان رجلاً مباركاً لامعاً ترتسم فوق جبينه كبرياء تاريخه الحافل بالعطاء وسجلِّه الحافل بالإخلاص والخدمة والكرم والتضحية. لقد كان قدوةً ونموذجاً في كُلِّ شيء، ويُعَدْ عندنا نحن الدليم من الرجال القلائل الذين إشتهروا بكرمهم وآمتازوا بحلاوة حديثهم وشخصيته القوية جذبت إليه الكثير من الناس ومن ديارٍ مختلفة، ونحنُ بالذات حينما قدمت عشيرتنا من محافظة الأنبار وبالتحديد من مدينة الرمادي إلى الموصل وبالأخص قرية الخضر والبساطلية، لم نكن نعلم بوجود شيخ قره قوشي ذو صفات عربية أصيلة ومشهورٌ بالكرم وإيواء الضيف لَهُ علاقات واسعة تمتازُ بالطيبة بسكان القُرى المجاورة والنائية. في الحقيقة تفاجأنا آنذاك بالحفاوة الكبيرة التي تلقيناها وله فضلُ كبير علينا ولا يمكننا أن نَنكر جميله أبداً. أما عن روح الشيخ داؤد الطيّبة المجبولة بالمحبّة والمفعمة بالإيمان يقول مُعمّرنا توحّدت كلمتنا وتضاعفت غيرتنا بإرادته القوية وعزيمته الثابتة. وعن موت الشيخ داؤد المُفاجيء تحدّث بألم وحسرة مُشيراً إلى أن أصعب أنواع الموت ماتَ أثر حادث مؤسف وأضاف لازلنا نتذكّر ذلك اليوم وكأنه البارحة وما زال صداه يذكره الآباء للأبناء والأجداد للأحفاد. وأزاء هذا كُله يُشيد (أبو صبرية) بالشيخ الخديدي داؤد ويؤكدُ بأنه كان من خيرة شيوخنا بحق، كُنّا نُحبه حُبّاً جنونياً وكان هو الآخر يُحبّنا وكأنه واحد منّا، يُحبْ بصدق عاداتنا وتقاليدنا وأصالتنا العربية ويعتز بها، ولا زالت صورته باقية أمامنا لأنه ببساطة كان صادقاً مع نفسه أولاً ومن ثم معنا.

 

وقفة مع الحاج إبراهيم الدليمي..

هلمّوا معي أيُّها القُرّاء الكرام وفي نفس القرية في لقاءٍ شيّقٍ ومُمتع، لنرافق شاهد عيان آخر للشيخ داؤد عكلة في هذه الجولة الموفقة عبر التاريخ ونقف إلى جانبه في كُلِّ نقطةٍ من نقاطه المشرقة وأمام كُلِّ حادثةٍ من الحوادث الغابرة لنجد كُلَّ الأمور تنبضُ بالحياة وتفيضُ بالقوة والشهامة والشجاعة والعرفان والحكمة. لنطّلع على أحد الشيوخ الخديديين الأفذاذ الذين زيّنوا تاريخ بغديدا بأفكارهم اللامعة وأعمالهم الجليلة ونقلوا عالمهم الساحر بالذكريات الخالدات.

وبكُلِّ إعتزاز نستلهم معاني النهوض في حاضرنا من خلال إستنهاض تاريخ بغديدا العريق الذي يعبق برائحة السريان من شيخٍ جليل زرع المحبة والوفاء في بلدته وخارجها وبقي في ذاكرة الأيام.

اليومَ عادتْ إلى (بغديدا) فرحتها

                                   فعمّق العمرُ فيها وآنبرى القلمُ

تدفّقَ الفِكْرُ مِنْ (ملفانها) دِيَماً

                                   كما تدفّق من شيوخِها الكَرَمُ

فالإرثُ قبلٌ لنا والإرثُ بعدٌ لنا

                                   منّا النجومُ ومنّا الشَّمْسُ والنَّسَمُ

 

 

وقفتنا الثانية كانت مع السيّد (إبراهيم عبدالله سليم الدليمي) من مواليد قرية الخضر والبساطلية التابعة لناحية النمرود عام 1927، متزوّج وله عشرة أبناء وستُ بنات، إستقبلنا خير إستقبال في داره القريب من دار الشيخ داؤد عكلة. سألناهُ عن معرفته برجلنا المبارك الشيخ داؤد (أبو ألياس) ففرح جدّاً وأجابنا مشكوراً: أعرف الكثير عن عكلة والشيخ داؤد وألياس (أبو خالد)، أنا في خدمتكم وخدمة التاريخ، عن أيِّ واحدٍ منهم تُريدني أن أتحدّث؟ أجبته عن الشيخ داؤد يا عمّي العزيز، إبتسم قليلاً وقال: أهلاً وسهلاً بأحباب الشيخ داؤد وبأبناء الخاتون وأضاف إذا أردنا أن نقلّب صفحات التاريخ ونتحدّث عن الكرم والشهامة فنذكر الشيخ باهي دديزا من قره قوش، أما في قريتنا والقُرى المجاورة والنائية فنذكر بإعتزاز الشيخ داؤد عكلة الذي له دين في أعناقنا وإبنه ألياس الذي لا يقلُّ كرماً وسمعةً وشهامةً عنه. وأيضاً أكد السيد (الدليمي) كيف كان المتخاصمون في قريته والقُرى القريبة يحضرون إلى مضيف الشيخ داؤد الذي كان يقدّم للضيوف أشهى وأطيب ما عنده من طعام ويتمُّ حسم النزاع بينهم بإرادته وحكمته ورجاحة ذهنه وعلو همّته وكيف كان يعطي لكل ذي حقٍّ حقّهُ دون تحيُّز ودون أن يتأثر بمزاجٍ عصبي ضيّقْ لأنه كان عادلاً لا يُحيدُ عن الصدقْ حتى في أحلك الظروف وأصعبها، وأتذكّر جيّداً كيف دافع عن الحق المُبين لفضْ النزاع القوي الذي حدث بين عشيرتين متخاصمتين في القرية ورفع شأن الحق عالياً وضحّى في سبيل إزهاق الباطل، وأضاف قائلاً: حسناً فعلتَ يا إبني لا بُدَّ أن تُخلِّد ذكرى هذا الشيخ الكبير الذي ظلمته وطمسته حوادث الدهر. وفي هذه الأثناء تدخّلت زوجة الحاج إبراهيم بالحديث وقالت.. أتذكّر إبنة شقيق الشيخ داؤد السيّدة (مريم يعقوب يوسف عكلة)* كيف كانت تُهيّء الطعام للضيوف والوافدين من الأماكن البعيدة آنذاك. وعن شهامة شيخنا المبارك داؤد ذكر الحاج إبراهيم حادثة حصلت في فترة الخمسينات وهي سرقة المواشي لأحد أصدقائه من قبل اللصوص الذين كانوا يدخلون القرية في بعض الأحيان وخاصة بعد منتصف الليل وكيف قام الشيخ داؤد بالتصدّي لهم وإعادة ما سرقوه بعد أن هربوا مذعورين وتفكيره بعد أيام من الحادثة مع وجهاء القرية بإختيار عدد من رجالها الشجعان لحمايتها من عصابات اللصوص آنذاك لإستتباب الأمن فيها، وفعلاً نجح في ذلك وشكره أهل القرية على عمله الحكيم هذا وأثنى الجميع على نخوته وشهامته، فإستحق في ذلك إعجابهم وتقديرهم.

 

المربّي التربوي فرج الياس زاكي والشيخ داؤد...

كنتُ على وشك اللّقاء به في موضوع خاص لمجلة النواطير وفي باب (شموعٌ تذوب لتُنير الأجيال) ولكن شاءت الصدفة أن يشاركني في موضوع من الذاكرة الخديدية وبالذات مع خالهِ الشيخ الخديدي الأصيل داؤد عكلة، لنتصفّح إذن بطاقته الشخصية على مهل قبل بدء الحوار معه. إنّهُ من مواليد قرية (الجُرُفْ) التابعة لناحية النمرود عام 1945، متزوّج من السيّدة نجيبة خضر داؤد جحولا، لهُ ولدان وعشر بنات، خريج معهد المعلمين عام 1969/ الموصل، حالياً معلّم في مدرسة المعلِّم للبنات في بغديدا (قره قوش). وهكذا أحبّائي القرّاء نلتقي بشاهد عيانٍ آخر قريبٌ جدّاً من الشيخ داؤد تحدّث قائلاً: أليسَ لنا الحق أن نفتخر ونتباهى برجلٍ من رجالات بغديدا الأُصلاء كان شيخاً على قرى الحاوي وإنتشر صيتهُ بعيداً حتى وصل قرى القراج ووسط وجنوب البلاد؟ وأضاف مشكوراً: كنتُ أذهبُ إلى قرية الخضر والبساطلية إلى بيت خالي الشيخ داؤد عكلة وأمكث هناك لأيام عديدة وخاصة خلال عطلة فصل الصيف، وأتذكّر جيّداً في صبيحة أحد الأيام طُرِقَ الباب ففتحتهُ حالاً وإذا بثلاثة رجال يرتدون الملابس العربية ألقوا عليّ التحية فحيّيتُهمْ بأحسن منها وسألوني عن تواجد الشيخ داؤد في الدار فأجبتُهمْ: نعم تفضّلوا فأدخلتُهمْ إلى المضيف ثم أسرعتُ لمناداة خالي فنهض متوجّهاً لإستقبال الضيوف وناداني قُلْ لأُمْ الياس أن تهيّء وجبة الفطور بسرعة.

 

 

بعد تناول الفطور والقهوة العربية بدأوا يتحدّثون عن أُمورٍ خاصة لا يمكنني تحديدها، لكنني عرفتُ أنهم قَدِموا من منطقة (القراج) لآستشارته في قضية صعبة حدثت في قرية (نعناعة) فأكد لهم إنه على إستعداد تام لمرافقتهم ومحاولة حلّ معضلتهم التي لم أفهمُها شخصياً. بعد دقائق معدودات طلب منّي أن أُنادي إبنه ألياس الذي كان يعمل في البيدر.. حضر إبنه حالاً فقال له والدهُ الشيخ: سأُرافقُ هؤلاء الرجال وأذهب إلى منطقتهم، كُنْ يقظاً على الضيوف القادمين إلى دارنا في حالة غيابي. وعند عودة خالي سألتهُ عن سبب زيارته فقال: لقد كانت قضية شائكة ولكن بعون الله تمكّنتُ من حلِّها دون إراقة دماء بين الأطراف المتنازعة، للّه الحمد تمَّ الصُلحْ وصفاء النيّات والقلوب.

 

 

 

 في الحقيقة حينها وقفتُ أمام هذا المشهد مذهولاً لا أعرفُ ماذا أقول؟ لقد كان الشيخ داؤد كريم الحسب ونقي الأصل والجذور، لذلك تمتّع بمنزلة إجتماعية مرموقة ومكانة رفيعة بين وجهاء البلدة وأهلها الطيبين، وما أدهشني آنذاك طريقة كلامه حيث كان يسحر الناس ويؤثر في نفوسهم. لا زلتُ أحنُّ إلى تلك الأوقات الرائعة التي قضيتُها في دار خالي رحمهُ الله وأتحسّسُ أحاديثه وأشتاق إليها لما كانت تمتاز به من رائحة الوفاء والصفاء والطيبة والكرم. أما بصدد علاقاته وصداقاته فحدِّثْ ولا حَرَجْ، كانت له روابط متينة مع الكثير من الشيوخ والشخصيات الروحية والمدنية في المنطقة. وعن الأعمال الحسنة التي كان يقوم بها الشيخ داؤد أكدّ المربي فرج زاكي (أبو ضياء) بأنّ خاله (أبو الياس) كان يوزّع خيراته وحسناته ليلاً على الفقراء والمحتاجين بواسطة بعض من أصدقائه الذين كان يعتمد عليهم دون أن يعلم أحد.

 

شُكْراً للذاكرة الخُديدية الخصبة...

وأخيراً وليس آخراً أقول: أيُّها الشيخ الجليل... لقد نَقَلْتَ حكمة بغديدا التاريخ وتراث الرجال الكرام وأصالتهم إلى ديارٍ أُخرى كانتْ بأمس الحاجة إليكَ ونشرتَها بكلِّ وضوح ووصل صوتُكَ الجميل إلى الآفاق الأرحَبْ والأبْعَدْ.. هكذا كُنتَ شيخاً كبيراً بروحك الخضراء وقلبك الكبير وعقلك الثَرْ.. إنتشر صيتك الحَسنْ عبر الأزمنة والتاريخ والشواهد والأعمال، ليس المهم أن نقول فيكَ أجمل الكلمات ولكن الأهم أن نقول كُنتَ بحق (غديدايا).. شكراً لحكمة كلماتكَ وغابة أفكاركَ التي مذاقها العَسَلْ.. شُكْراً للذاكرة الخديدية الخصبة التي تدخل مسامات الجسم والعقل دون إستئذان وتنفذ إلى الروح لتخلّد المعنى وتصبح زهرة. أيُّها الشيخ الخالد أنت الباقي في ذاكرة التاريخ وخاصرة الأمس والأجيال المقبلة.. أنتَ الحاضر في اليوم يا غُصْناً حمل رسالة الآباء والأجداد العظام..

بقي أن أقول لكم أعزائي القرّاء نحن الخديديون لنا رسالة نعتز بتراثنا ونفتخر بماضينا الذي به نُوثِّق وجودنا الحضاري والذي هو بالنسبة لنا عِرْق الجذور وعَرَق البطولة. لا يُمكن لي بهذه الأجزاء الثلاثة أن أُعطي حق هذا الشيخ الخديدي الأصيل.. ولكن للضرورة أحكام.. لنفسح المجال أمام الكُتّابْ والقُرّاء ليدلوا بدلوهم ويكتبوا عمّا يجيش بدواخلهم وينهلوا من إرثهم الجميل ويعرّفونا بأعلام ورموز أُخرى خديدية نعتزُّ ونفتخر ونتباهى بها أمام الناس.

 

 

 

............................

الموضوع منشور في العدد(33) من مجلة النواطير

(القسم الثاني)

 

E: Waad_alla@yahoo.com

 

مكانة الشيخ داؤد في المجتمع الريفي..

بينما كنتُ أُعدُّ نفسي للقاء بالسيّد بهنام كتا عناي (73) عاماً تملّكني نوعٌ من القلق وكنتُ أخشى أن لا يُجيب على أسئلتي الكثيرة بصدد التحقيق الذي جئتُ من أجله، ولكن سرعان ما تبدّدتْ مخاوفي، وقد وجدته عكس ما قيل لي، إنساناً مرحاً بسيطاً ومتواضعاً يمتلكُ صدراً واسعاً وأُفقاً رحباً في الحديث. لم يتردّد (أبو خضر) عن الكشف بصراحة عمّا يدور في ذاكرته من أحداث حيث تحدّث لي قائلاً:

 

 

لقد كنتُ من المحظوظين لتعرّفي على هذا الشيخ الوقور وهذا الإنسان الطيب النبيل وذلك لكوني صديق إبنهِ (الياس داؤد)[1] وبفضل العلاقة التي كانت تربطه بوالدي رحمه الله (كتا بحودي عناي) الذي كان أخاً وصديقاً صادقاً صدوقاً له لا يعرف الكُره أبداً. وأضاف السيد بهنام أيضاً بأن الشيخ كان إنساناً هادئاً ومتواضعاً، شجاعاً مقداماً، عفيف النفس وطويل البال، عنواناً مطرّزاً في قلوب كُلِ مَنْ عرَفهُ. يبقى إسمُ هذا الرجل خالداً في ذاكرته، فهو لم يمت ما زال حيّاً ينطقُ بالحكمة ولا زلتُ أتأمّله فارع القامة كنخلةٍ عراقيةٍ جميلة. الشيخ داؤد كان بحق شيخاً خُديديّاً أصيلاً مثّل بلدتهُ بين الجبور والدليم خير تمثيل، قوي الشكيمة وكريم النفس. في الحقيقة علّمني أسرار العمل والمشاركة وحُبّ الآخرين. إن ما أنجزه هذا الشيخ الجليل يؤكد لنا مكانته المرموقة التي تبوّأها في المجتمع الريفي الذي يسوده الإخضرار والمطر والجمال والبساطة والروعة والصفاء. عاشَ (أبو الياس) في قرية حويجة حصان في الريف الجميل الذي تميّز بنقاوة الهواء والطيبة. أستطيع أن أقول بأن الشيخ داؤد كان النموذج الرائع للإنسان الخديدي داخل وخارج بلدته ومثلاً يُحتذى به، وكيف لا يكون كذلك وهو إبن بغديدا العزيزة ذو القلب الكبير والخلق الرفيع والإنسان الخيّر؟! وشدّد العم بهنام قائلاً: سيبقى هذا الرجل المُبارك ساكناً في أعماق قلبي ووجداني، يُذكّرني دائماً بالأشياء الجميلة وما قدّمه من أعمال في خدمة الآخرين دون مقابل. في الحقيقة إتصف بالإخلاص والتضحية من أجل الجميع. قبل أكثر من نصف قرن يحضرني المشهد الجميل الذي لازلتُ أتخيله أمامي في هذه اللحظة حينما كنتُ أجلسُ قرب الشيخ داؤد بجوار والدي كوني الولد الوحيد للعائلة حيث كان لحديثه طعمٌ خاصْ ونكهة خاصة وبالأخص عندما كان يروي لنا القصص والحكايات القديمة، أتذكر آنذاك عمري كان بحدود (21) عاماً وكنتُ متزوجاً. وعن الظروف الصعبة التي مرَّ بها تحدّث بألم وحسرة قائلاً: في أحد مواسم الجفاف (القحط) في نهاية الأربعينات ضعف الحال عندنا بسبب إنحباس الأمطار ذهبنا إلى قرية حويجة حصان التي تُعد إحدى قُرى الحاوي حيث مكان تواجد الشيخ داؤد، ونظراً للعلاقة الحميمة بينه وبين والدي مكثنا عنده مدّة طويلة وتلقّينا كُل الحفاوة والرعاية والإهتمام. شاهدتُ بنفسي كيف كان شيوخ القُرى المجاورة والخديديين وبالأخص البقالة المتجولون (ديورة) أمثال كريم بطرس كتي، أيوب زورا تمو، يونو نعمت "غزالي"، كرومي أسّو، يونو عرمان، جميل طوبان... الخ. يتوافدون وفي كُلِّ الأوقات حيث باب مضيفه مشرعٌ لإستقبال الضيوف والوافدين من كُل صوب وحدبْ يجدون عنده أصول الضيافة العربية وحرارة الإستقبال والدفء والمحبة. لقد كان إسمه لامعاً في كُل مكان إذ كان الشباب والشيوخ يلهجون بذكر خصاله الحميدة ولا يزال حتى هذا الوقت لِما إمتاز به من تواضع وصبر لا مثيل لهما ولما زرعه من طيب وكرم وشهامة ووفاء بين العشائر العربية، هذا بالفعل كان سرُّ تألقه وجمال روحه وتفوقه وإنتشار صيطه في تلك الديار الجميلة.

 

 

ملف الشيخ داؤد وأبواب الذاكرة

لنفتح ملف هذا الشيخ وأبواب الذاكرة ولنستعرض التاريخ ونعتزُّ بهذا الرجل الحكيم الثري بفضائل القلب والعقل والذي كان يستيقظ فيه عنفوان الحياة وينتصبُ فيه الصلاح والتي كانت هويته حب العراق أولاً وقبل كًُل شيء. لقد ساهم هذا الرجل المبارك في صنع تاريخ وأمجاد بلدته العزيزة (قره قوش). لغتي تخونني وكلماتي تهرب مني كُلما حاولت أن أكتب عن هذا الإنسان الخيّر وأقف مذهولاً أمام ما أسمع من شهود العيان عن مواقفه الشجاعة وكرمه الذي لم يعرف الحدود يوماً. في القسم الثاني من هذا التحقيق مضيتُ بعزمٍ وإصرار وبذلتُ قصارى جهدي لبلوغ هدفي، فكانت لي زيارة مُفاجئة وفي جُعبتي سيلُ من الأسئلة التي طرحتُها لأبن الشيخ داؤد السيد خضر داؤد يوسف عكله (73) عاماً، أجاب مشكوراً:

لوالدي رحمه الله مكانةٌ خاصة في قلبي وفي نفوس أبناء بغديدا وغيرهم، فقد ضحّى بكل غالٍ ونفيس من أجل الخدمة وذلك بحكم علاقاته الواسعة مع شيوخ القرى المجاورة للبلدة والشخصيات المهمة والآغاوات والتجار في الموصل وبغداد وتكريت. من أصدقائه الخديديين: (بهنام نعوم حداد، كتا بحودي عناي، جبو شيتو، كريم نعمان، جرجيس عطالله، يونو جميل) وآخرون لا تسعفني الذاكرة لذكرهم. أما من أصدقائه الشيوخ أتذكّر من القُرى المجاورة: (الشيخ مسلط الموسى "أبو يونس"، أحمد الجدوع، مصطفى الحاصود، حجي نجيفي، ظاهر الحاصود، خليل الخلف "أبو إبراهيم"، كامل الترف... الخ) والقائمة تطول.

 

 

ومن معارفه في لواء الموصل سابقاً: أحمد الونسة ومحمود الأطرقجي وآغاوات باب البيض وعددٌ من التجار  وأيضاً صديقه المخلص (رفو كزو) البرطلي الذي كان يعمل بتجارة الحبوب. أما عن شيوخ ووجهاء بغداد وتكريت وجنوب البلاد فلا أتذكر منهم شيء سوى أنهم كانوا يتوافدون بصورة مستمرة على مدار السنة إلى قرية الخضر والبساطلية لتأدية مراسيم الزيارة لدير مار بهنام الشهيد لتقديم نذورهم وتحقيق مبتغاهم، وأتذكر جيداً كيف كان والدي (الشيخ داؤد) يستقبلهم أفضل إستقبال ويرحب بهم أجمل ترحيب من خلال مضيفه وقيامه بآداب الضيافة على أتم وجه. وعن إمتهانه مهنة الزراعة يُضيفُ "أبو رعد" قائلاً: كان لوالدي بساتين في قرية (حويجة حصان) في منطقة الحاوي حيث كانت تُسقى بواسطة النواعير التي ترفع الماء بدواليب تُديرها الحيوانات لعدم توفر مكائن خاصة لإستخراج الماء من الآبار لسقي المحاصيل الزراعية. كان والدي يجلب الخضراوات من بساتينه عن طريق بعض الأصدقاء ويوزعها مجاناً على أهالي البلدة دون مقابل. وبخصوص العوائل القره قوشية التي كانت تسكن في قرية "الخضر والبساطلية" أشار إلى إمتهانهم الزراعة بالدرجة الأولى والحياكة بالدرجة الثانية وتربية المواشي بالدرجة الثالثة ومن هذه العوائل: (يعقوب وشابا تمس، هابيل بلو، توما عطالله، بطرس كرو، فيليفوس سوني، بتو شابو، موسى القس بطرس، ميخا تمو، منصور ششا، قريو حسنية، عبدالله الجميل، بطرس كتي، خضر نعمت.... الخ) من العوائل. فاتني أن أذكر كان لوالدي فرسٌ من خلالها يتفقد القُرى لتلبية حاجياتهم وأحوالهم.

مُعمّرة خديدية تقتحم ماضي الشيخ داؤد...

 

 

لم يخطر ببالي اللقاء بآمرأة مُعمّرة عمرها قرن تشدّني إلى ذاكرة الماضي وعبقه وعطره الفواح بكل ما يحمله من خزينٍ من الحُب والقيم والأرث التاريخي من صورٍ ومعانٍ وبساطة وحنين وتراث وتألّق. ضاقت كلماتي وفرّت مفرداتي وخجلت تعابيري أمام هذه الأُم الكبيرة التي أسعفتني بمعلومات كنتُ بأمسّ الحاجة إليها وجعلتني أتحدّث بلغةٍ جديدة عن رجالٍ نفخر بهم وعن شيوخٍ كانوا حجارة حيّة لنا وأجدادٍ عظام طرّزوا أسماءهم في سفر التاريخ الخديدي العريق بصفحاتٍ من نور. حاولتُ أن أقتحم ذاكرتها لأتوغل في أعماق الماضي كونها متقدة تحتفظ بكل تواضع بشريط ذكريات الأمس. إنها المعمّرة سارة طوبيا يوسف أمطو سقط زوجة المرحوم منصور يسي باكوس بتو ششا، من مواليد بغديدا (قره قوش) 11/ آب/ 1908، نالت المعموذية في 20/ آب/ 1908، أُم لأربع بنات ولولد وحيد. لم أكن أظن أن الحديث مع المُعمّرين هو بهذه السهولة، ولكن جعبتي كانت تحمل أسئلة محدّدة عن شيخ داؤد، جاءني صوتها أخيراً، مَنْ أنت يا إبني وماذا تُريد من إمرأةٍ مُعمّرة مثلي؟ لم يكن عليّ أن أتلو عليها سوى إسمي ورغبتي الشديدة في لقائها. إبتسمت قليلاً وذكّرتني بوالدتي رحمها الله يوم كانت طفلة صغيرة لم تبلغ بعد العشر سنوات وكيف كان الشيخ داؤد يُجلسها في المضيف. لقد عرَفَتْ لماذا ألتقي بها وفرحتْ جدّاً وقالت: ذكّرتني بالشيخ داؤد أيام زمان يوم كانت زوجته (أمينة) جارة وصديقة لي، كان ذلك في الأربعينات يوم تركنا قره قوش لظروفنا الصعبة جدّاً وذهبنا إلى دير مار بهنام الشهيد الكائن في قرية الخضر والبساطلية بتكليف من رئيسه لنعمل هناك بزراعة أراضي الدير (مرابعة) كفلاحين أي كانت حصتنا من الأُجور واحدة مقابل ثلاث حصص للدير، وكُنّا نعيش في أمان وسلام. أما عن صديقاتها في القرية اللّواتي عاشت معهنّ بمحبة وإلفة فتتذكّر منهنَّ: (أمينة بطرس كتي، للّي عطالله، أمينة بهنو ككا، حبيبة موساكي، أنو كرو). وعن علاقتهم مع الشيخ داؤد آنذاك ودوره المشرّف في القرية، قالت بألمٍ وحسرة.. أُوف على تلك الأيام الجميلة التي لا يمكنني أن أنساها أبداً! لقد كان الشيخ داؤد من شيوخ القرية وأكبر وجهائها، ولكن يا إبني الزمن لا يرحم وللأسف الشديد توفي أثر حادث مؤسف وفي ظروف غامضة لا يعرف سرّها إلاّ الله وحده، وبوفاته خسرت بغديدا والقُرى المجاورة لها شيخاً وقوراً.

 

 

أعزائي القرّاء هكذا كانت مأساة شيخ خديدي تغرّبتْ شمسهُ خلف غيوم كثيفة ومع ذلك بقي إسمه عالقاً بذاكرة الخديديين وغيرهم من الذين عرفوه وشاهدوا أعماله الجليلة وغيرته من أجل الآخرين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه.. لماذا لم يذكرهُ التاريخ ولم يُشِرْ إليه المؤرخون؟.. الجواب يحتفظ به أصحاب الشأن!.

وحول تعاقب الآباء الكهنة على رئاسة الدير تحدّثت عن أول رئيس لدير مار بهنام الشهيد الأب بهنام البعشيقي ودوره الفاعل في خدمة الناس والوافدين إليه من الأماكن البعيدة من البلاد، وأكدت أيضاً على الدور الرائد للآباء الكهنة الذين إستلموا الرئاسة من بعده وهم كل من الأب منصور دديزا ويوسف موساكي والخوري أفرام عبدال، وهذا الأخير كان على علاقة وثيقة مع الشيخ داؤد عُكلة الذي آزره في تقديم الخدمة للزائرين والوافدين من داخل العراق وخارجه. وفي مجالٍ آخر تحدّثتْ المُعمّرة (سارة) عن عوائل خديدية عديدة سكنت هناك منها: عائلة نوح يسّي ششا الذي كان يمتهن الحياكة ويبدع فيها وحسّو جندو وقريو حُسْنية وبطرس كتي ويوسف موساكي وبهنو، روفو ككا وعوائل أُخرى كانت تعمل بالزراعة والحياكة وصناعة اللُّباد. وعن المواقف الشجاعة للشيخ داؤد تتذكّر الأُم الكبيرة حادثة حريق بيدر عمر عبدالله المغامز وكيف قام الشيخ من مضيفه ونجح في إخماد الحريق ومعه رجال القرية!.

 

[1]. الياس داؤد يوسف الياس أيوب عكلة.. هو الإبن الأكبر للشيخ داؤد عكلة، من مواليد بغديدا (قره قوش) عام 1933، عُرِفَ بكرمه الكبير وخدمته للناس وهذا ما يشهد به القاصي والداني من أبناء منطقته والقُرى المجاورة. سارَ على نهج والدهِ حيث كان إنساناً مُباركاً يُشار له بالبنان. تبرّع في الثمانينات بدلال القهوة لكنائس بغديدا للجمعيات الخيرية . توفي أثر مرض عضال في 2/ شباط/ 1992 في بغداد.

>>>>>>>>>>><<<<<<<<<<<

 

الموضوع منشور في العدد (32) من مجلة النواطير

 

من الذاكرة الخديدية

 

الشيخ داؤد عكلة

 

 

(القسم الأول)

 

E: Waad_alla@yahoo.com

 

إطلالة: تزخر بلدتنا العريقة بغديدا (قره قوش) برموز وأعلام ووجهاء وحكماء وملافنة ومربّين وشيوخ تعالى بهم مدُّ فخرها على أرجاء الوطن، صنعوا وحملوا تاريخها الذي يحفل بعطاءات الحقيقة وثمار الروح وذاكرتها الأصيلة. لقد كتبوا إسمها الجميل على جباههم، في عروقهم ودمائهم وأفئدتهم جرى حبّها، إنحنوا إجلالاً وإكباراً لتقبيل تراب شهدائها وأسدوا خدمات جليلة وسجّلوا نضالات طويلة ومريرة لأنها خزين حبّهم الكبير وسجلهم الرائع الذي يحظى بمثُلِهمْ العليا وقيَمِهمْ النبيلة وهويتهم التي لا تتبدّل.

عكفتُ على العمل وحاولتُ أن أكتب عن سجل الآباء والأجداد العظام الذين قدّموا تضحيات تفوق الوصف إلى جانب ما قاموا به من أعمال جبّارة ومآثر رائعة وما تُميّزوا به من حُسنْ الفضائل. قليلةٌ جدّاً هي المعلومات التي جمعتُها من قريبٍ وبعيد عن هذا الشيخ الخديدي الأصيل الذي حاولتُ مراراً أن أصفه للقُرّاء الكرام ولمَنْ يجهله من الناس متأمّلاً في صفاته ومشيداً بمزاياه لكي يعرفه الجميع ويشتاقوا إلى سيرته الحسنة. لقّبَهُ أهل زمانه بـ (الشيخ) ووافق على هذا اللقب كل مَنْ عاشره وعاصره وسمعه في عهده لدوره الكبير والمتميّز في شدّ أواصر المحبة والتألّق والتعاون والتآخي بين أهالي قره قوش والقرى المجاورة التي لا زالت عامرة حتى هذا اليوم. أعزائي القُرّاء إنْ شئتم أن تعلموا مَنْ هو هذا الشيخ الجليل فآسمعوا كلمة الحق من شهود العيان ومن أصحاب الحقْ والعِشْرة.

من أين جاءت تسمية (عُكْلَة)؟.

كان طفل صغير يُدعى (أيوب) يبلغ من العمر ستُ سنوات إبن المدعو (شمعون طوبيا بهنام فقير) يلعب مع أصدقائه في البيادر القريبة من كنيسة مار كوركيس آنذاك، وبعد غروب الشمس مرّت قافلة عربية من قرية (نعناعة)[1] وحينما شاهدها رافقها مباشرة دون علم أهله. فتش عنه أهله طوال الليل ولم يعثروا عليه، ظنّوا وحشاً ما قد إفترسهُ، فتبنّاهُ الشيخ (عباس عكلة) شيخ الجبور فسمّاهُ (عباس). كَبُرَ الطفل وأصبح شاباً يافعاً، أراد الشيخ أن يزوجه إحدى بناته، ولكن عباس رفض فكرة الزواج كونه قد تربّى معهنَّ في بيتٍ واحد. في يومٍ من الأيام تشاجر عبّاس مع أحد شُبّان القرية الذي عيّرهُ بوالديه حيث قال لهُ: "تعرّف على والديكَ أولاً ثم تشاجر وبيّن فتوتك معي". حزن عباس حزناً شديداً وعاد إلى بيته مُتعباً تُراودهُ بعض الأفكار والشكوك، ثم تحدّث مع والدته وطلب منها أن تُهيّئ لهُ قِدْراً من الماء الحار ليغسل جسمهُ وبإلحاحٍ شديد أصرَّ أن تفعل ذلك، وعندما إقتربت منهُ قال لها بلهجةٍ غريبة: سأحرقكِ بهذا الماء المغلي إنْ لم تقولي لي الحقيقة وبصراحة مَنْ هُمْ والديَّ الحقيقيين! أجابتهُ أنا والدتك والشيخ والدك، ردَّ عليها كلاّ. وبهذه الأثناء نادت زوجها الشيخ قائلةً لهُ: ولدك عباس تشاجر مع أحد شُبان القرية حيثُ جرح شعوره بكلامٍ بذيء وقاسٍ جدّاً مستهزءاً به بكونه ليس إبنك، أجابها الشيخ عباس إبني، ردّ عباس على أبيه: لستُ إبنكَ لو كنتُ حقاً كذلك لما طلبتَ مني أن أتزوجَ من (فاطمة)! قُلْ لي يا أبي بحق السماء الحقيقة وإلاّ قتلتُ نفسي أو قتلتُ أحدكم، حينئذٍ أجابه والده بهدوء: يا ولدي أنت من بلدة (قره قوش) عثرنا عليك قبل فترة حينما كُنتَ طفلاً صغيراً بعد غياب الشمس حيث كُنتَ نائماً في البيدر، حينها لم يسأل عنك أحد فتبنّيناكَ. وفي أحد الأيام بينما كان الرجال مجتمعينَ في مضيف الشيخ، أبلغهم بأنهم سيتوجهون إلى (قره قوش) بحمولتهم من الملح التي كانت تُنقَلْ على ظهور الحيوانات ليلاً. سمع عباس هذا الكلام وظلَّ قلقاً تنتابه الحيرة، فتشجّع وقال لوالده: سأُرافقكم، أجابه والده إبْقَ هنا يا ولدي، فبقيتْ الفكرة راسخة في ذهنه وظلَّ ساهراً طوال الليل ولم يغمض له جفن حتى إنطلاق القافلة، فتبعها عن بُعْدٍ، وعندما وصلت قرابة (خرابة بولص كيخوا) على طريق قره قوش- دير مار بهنام، بدأ الفجرُ يلوح في الأُفق، وحينما إقتربت من منطقة (قورد قرذاية)[2] إلتفتَ والده إلى الوراء فتفاجأ برؤية ولده (عباس) يتبعهم فناداهُ قائلاً: لماذا تتبعنا يا ولدي؟ أجابه عباس والعرق يتصبّب من جبينه، جئتُ إلى أهلي! إنتابت الدهشة والده ولم ينبس ببنت شفة، وعندما دخلت القافلة بلدة (قره قوش) توجّه عباس فوراً إلى دار أهلهِ حيث الصورة لا زالت حاضرة وعالقة في ذهنهِ. حال وصوله إلى الدار تنفّس الصعداء، طرق الباب، فتحت والدته الباب وقالت له: تفضّل ماذا تُريد؟ أجابها عباس هذا بيت أهلي إشتقتُ إليهِ، فآندهشت والدته من هذا الكلام وقالت له: إبننا قد فُقِدَ منذ فترة طويلة، وأسرعت في ذات الوقت إلى الجيران الذين بدورهم إستدعوا المُسنّين من المحلة ليشاورا ويتعرّفوا عليه. قال لهم عبّاس: ألم يكن لكم ولد مفقود منذُ فترة ليست بالقصيرة ولم تعثروا عليه؟ ثم أضاف قائلاً لهم: هل كان لولدكم علامة مُميّزة في جسمه؟ أجابته والدته: نعم هُناكَ علامة فارقة، عبارة عن (شامة) في رقبتهِ. في هذه الأثناء كشف عباس عن رقبتهِ فظهرت العلامة بارزة وواضحة للعيان، ففرح الجميع ورحّبوا به وآستقبلوهُ خير إستقبال.

 

 

 بعد أن أنهت القافلة بيع حمولتها، وصل الخبر إلى شيخ الجبور والد عباس، فجاء مسرعاً إلى الدار التي دخلها إبنه طالباً منه العودة إلى دياره. قال له عبّاس وبجرأةٍ قلَّ نظيرها: لقد هدّاني الله إلى أهلي وحالياً أنا بين أحبّائي وأبناء عُمومتي، أشكُركَ جزيل الشكر على السنين التي أمضيتُها معكَ وأكنُّ لك كل الإحترام والتقدير، في هذا الوقت قبّلهُ الشيخ بحرارة وعادَ حزيناً إلى دياره. بعد ثلاثة أشهر عاد الشيخ إلى (قره قوش) جالباً معه المواشي وواردات أراضيه الزراعية قاصداً دار أهل عباس الذي يشغل فكره أينما حلَّ. أثناء وصوله الدار إستقبله عباس لحسن حظّهِ ففرح جدّاً وقال لهُ: خُذ يا ولدي، هذا نصيبكَ من أتعابكَ! أجابه عباس: أشكرك على وفائك لي، لقد أخذتُ نصيبي من خلال تربيتك لي منذُ نعومة أظفاري، فحرامٌ عليَّ هذه الأموال مثلما كانت أُختي (فاطمة) مُحرّمة عليَّ. تزوّج عباس (أيوب) من فتاة خديدية جميلة من عشيرة آل (كذيا) فرزق بطفلٍ سمّاهُ (الياس) وخمسُ بنات، والياس تزوّج من (شوني دانيال علوك) حين بلوغه سنْ الرشد ورزق بولدٍ وحيد سمّاهُ (يوسف). تزوّج يوسف من فتاة من قرية (تلّلسقف) إسمها (بربارة) التي تميّزت بجمالها الفاتن وخُلْقِها الرفيع فآنجبت له طفلاً في قرية (شرائع) التابعة لناحية الكوير حالياً حيث كان يعمل هُناك، ولكن لسوء الحظْ توفي الطفل بعد ولادته بأيامٍ قليلة ودُفِنَ في القرية، وفي نفس الليلة التي دُفِنَ فيها، ظهر بغتةً في الحلم لأُمه وهو يعضُّ في جسدها قائلاً لها: لماذا لم أُدفن في مقبرة الدير؟ سأُعذّبكِ إذا بقي رُفاتي هُنا. في الصباح الباكر إستيقظتْ أُمهِ وهي مضطربة وروت ما حلمت به لزوجها يوسف وطلبت منهُ أن يُخرج الجثة وينقلها إلى دير مار بهنام الشهيد الواقع في قرية الخضر والبساطلية والتي هي حالياً ناحية النمرود. توجّه يوسف ليلاً دون أن يعلم به أحد إلى المقبرة وأخرج الجثة ووضعها في كيس وحملها متوجّهاً إلى دير مار بهنام تتبعهُ الكلاب محاولةً النيل من الجثة، فدفنها في مقبرة الدير. في الليلة الثانية ظهر الطفل في الحلم مرّةً أُخرى لأُمّهِ وهو يبتسم بوجهٍ مُشرق قائلاً لها: حفظك الرب يا أُمّي لأنك أنقذتِ نفسي، أطلب منكِ أن لا تذرفي الدموع عليَّ، أنا حالياً في أحضان العذراء مريم وفي دفء الملكوت مع الملائكة والقديسين.  شاءت العناية الإلهية أن تُنجب بربارة ولدان آخران (يعقوب وداؤد) وبنتان (هلّو وحبيبة). وبقي أن نقول لكم قراءنا الأعزّاء بأن المعلومات التي وردتنا عن تسمية (عُكلة) زوّدنا بها السيد (حبيب يعقوب عُكلة)[3].    

 

    

مَنْ هو الشيخ داؤد عكلة..؟

هو داؤد بن يوسف بن الياس بن أيوب عكلة (هكلة)، من مواليد بغديدا (قره قوش) 20/ أيار/ 1910، تزوج من أمينة بطرس بهنام كتي، له أربعة أولاد (الياس- خضر- سالم- أيوب) وبنتان (سليمة- إمامة). نشأ الشيخ الجليل أكرمَ نشأة منذ نعومة أظفاره حيث كان مثالاً في النُبلِ والطهارة والعطف والرعاية. كان الشيخ داؤد يُكنّى بـ (أبي الياس). كان يعمل حائكاً في بلدته العزيزة (قره قوش) إضافة إلى إمتهانه الفلاحة، تميّز في صناعة السجاد والبسط والعباءة العربية.

 

 

 ومن صفاته كان طويل القامة ذو بشرة بيضاء ولحية تميلُ إلى الإحمرار، تميّز بالجود والكرم والشهامة ودماثة الخلق والطيبة والتضحية من أجل الآخرين. إستحق لقب (المشيخة) نظراً لإتزانه ومناصرته للفضيلة وسدادة رأيه وإلتهابه بمحبة الله والقريب والغريب. ذاع صيطه خارج بلدة (قره قوش) وإنتشرت شهرته في قُرى الحاوي وخاصة في (حويجة حصان، النايفة، الذيبانية، الحاصودية، الكنهش، العباس والنجفية، كاني حرامي، الجرف، الخرطة، السيد حمد، الجايف (شروق)، صنيديج، صف التوت، السلامية، الرزاقية، الشنف، الخضر والبساطلية، المخلط.... الخ) حتى وصلت شهرته قضاء الشرقاط وقُرى القراج (نعناعة، تل الشعير، دويزات.... الخ). إشتهر بكرمه الذي لا يوصف ويعجز اللسان في التعبير عنه مهما ذكر من كلمات. لم يطرق بابه سائلاً فعاد خائباً حتى ولو كان على رغيف الخبز الذي يتناوله. كان الشيخ داؤد سبّاقاً في إنهاء وفض النزاعات التي تحدث في القرية والقرى المتجاورة بين المتخاصمين ومن غير إجراء قانوني وتدخل السلطة.توفي الشيخ داؤد عكلة في قرية الخضر والبساطلية بتاريخ 22/1/1956 أثر حادث مؤسف حينما كان يقدّم خدمة للآخرين.

مضيف الشيخ داؤد عكلة...

 

  

أثناء زيارتي للعم عبدالله باكوس رفو جميل (80) عاماً وهو عديل الشيخ داؤد ومن الذين عملوا في مضيفه ولفترة طويلة والذي لا زالت ذاكرته متّقدة ويذكر كل التفاصيل من خلال قيامه بواجب الضيافة للخديديين وغيرهم من أبناء القرى المجاورة. أشار لي بأنه قد تعرّف على هذا الشيخ الوقور في قرية الخضر والبساطلية حيث كان يسكن هناك ويزاول مهنة الفلاحة.

كان مضيفه عبارة عن ربعة في داره الواقع في قرية الخضر والبساطلية مقابل مركز الشرطة والذي كان مبنياً من الطين، يجتمعُ فيه أهل القرية والقرى المجاورة والوافدين من الأماكن البعيدة، حيث تُقدّم لهم القهوة العربية الشهيرة وما قَسَمَ الله من طعام. كان الشيخ داؤد ينحر لهم الذبائح المتيسّرة من الخراف والجداء، وفي حالة خلو الدار منها يُقدّم لهم (البرغل) مع التمر المقلي بالدهن الحُرْ. حينما كان يتحدّث مع الشيوخ والوجهاء في مضيفه باللغة العربية المصحونة باللّكنة البدويّة لا يُميّز عن أصدقائه الشيوخ، كانت تجري من فمه كلمات أحلى من العسل، أي كان له خصوصية في الكلمات التي كان ينتقيها في الحديث. كان لباسه يتكوّن من الصاية والدمير الموشّح باللون الأحمر والعباءة العربية الموشّحة بالنسيج الفضي. وأضاف العم عبدالله (أبو قيس) بأن (الخوري أفرام عبدال)[4] رئيس دير مار بهنام الشهيد كانت تربطه علاقة حميمة وطيبة مع الشيخ داؤد حيث كان ساعده الأيمن في متابعة شؤون الدير والتسابق في خدمة الآخر. كيف لا يكون كذلك وقد أعطاه الله إرادة قوية في عمل الخير وحكمة في حل المعضلات!.

 


[1]. نعناعة: قرية من قُرى القراج التابعة لناحية الكوير.

[2]. قورد قرذاية: منطقة تقع على طريق دير مار بهنام- قره قوش مقابل بستان آل مقدسي حسّو.

[3]. حبيب يعقوب عكلة: هو حبيب يعقوب يوسف الياس أيوب عُكلة، إبن شقيق الشيخ داؤد عُكلة. من مواليد بغديدا (قره قوش) 1942.

[4]. الخوري أفرام عبدال: مواليد قره قوش سنة 1904، رسم كاهناً في دير الشرفة بلبنان سنة 1933، تولّى رئاسة دير مار بهنام الشهيد سنة 1936، توفي في الدير سنة 1966.