لأعزائنا الصغار

رسامات

عيون بخديدا

Museum متحف

أرشيف الاخبار

فنانونا السريان أعلام

أرشيف الموضوعات

الشماس/ بشار الباغديدي

 

الموضوع منشور في العدد (33) من مجلة النواطير

شماشا وشمشوثا

(القسم الثالث) (الجزء الثالث والأخير)

 حنّّاء... كنيسة بغديدي

 

 

- بغديدا... خُلقتِ لأجل إرسالية..

مدعوّون أن نخدم في جسد المسيح، علينا أن نكمل ما فعله بجسده الطبيعي بآعتبارنا جسده الروحي أي (الكنيسة). شرف عظيم أن يستخدمنا الله رغم المسؤولية الكبيرة...! نعم الله هو خالقنا، فنحن لم نَخلِق أنفسنا، ولكن كثيرين من الناس يعيشون وكأنّهم قد خَلقوا أنفُسَهم. وإنهم مركز دنياهم ومثل هذا التفكير يؤدي إلى حب الإمتلاك الجشع، فإذا أخذ منهم شيء لكان معنى هذا ضياع الرجاء نفسه ولكن علينا أن نتيقّن أن الله خلقنا وإنه هو الذي يعطينا كل ما لنا فسيكون لدينا الإستعداد أن نعطي آخرين كما أعطانا الله. فإذا ضاع الكل يبقى لنا الله وكل ما يعطيه لنا.

(مري يؤب الربُ أعطى- عطاء الله) بيث عطالله كانوا قريبين من الكنيسة وخادمين فيها فأصبحت الخدمة (شمشوثا) مهنتهم برعوا فيها وتغذوا بعلومها كتابةً (الخط) وقراءةً (النحو) وترتيلاً (اللحن) وخدمةً (الساعورية) ومن (دارا لدارا) أي الأجيال تناقل هذا الغنى وتوارثه أبناء آل عطالله وتلك الأيادي التي تشققت في الفلاحة وعمل اللباد أَتَتْ من تكريت[1] لتقولب الشمع (الفند) وتعمل الخمر (خمرا) وتنير قنديل المذبح (برخموثا وهيمنوثا دبابن كهنا يوسف دديزا) مُصلّياً (قبول يا مارن فرما آذا مئيداثن أخ فَرمَ دأهرون دمنعل موثا معمّا).

إنَّ أجيال الغد التي لم تولد بعد، تعتمد على أمانتنا الآن. فكما نُعَلِّمُ أبناءنا الآن عن الرب سيعلّمون هم أبناءهم وسيعلّم أبناؤهم أحفادهم غداً. فإذا تقاعسنا عن تعليم أبنائنا عن الرب فقد تكسر سلسلة تأثير الله على الأجيال القادمة..

- طمؤو وخزو ما بسيميلى مارن..

ذوقوا.... هي دعوة حارة (جرّبوا هذا) فأنا أعلم إنكم ستحبّونه وعندما نخطو هذه الخطوة الأُولى من خطوات الطاعة في إتباع الله لا يسعنا إلاّ أن نكتشف إنه صالح وطيب. فنحن نبدأ الحياة المسيحية بإساءة فهم الله والحياة المستقيمة وبالأختبار وحده نكتشف كم هو طيب حقيقة.

فكيف لا يكون البعض قريباً من هذا الطيب السماوي الذي تسكر به النفس العطشى.. (ئيتا دبـ.. عطالله - بـ.. روحا دقُدشا) هذا التواصل الذي غرسه الأجداد يأكل ثماره الأحفاد اليوم ومن ذلك تأتي هذه التسمية بفم مازح أحياناً لكنه مثقل بالحقيقة بعض الشيء ولست مع الذين يقولون ذلك في شيء واحد (كل واحد منا هو كنيسة مقبولة ورجل صلاة.. هو خادم.. يتكلم.. يوعظ.. إن كان فعلاً يعيش البساطة ويتصرف بها متخلياً عن مخططات عديدة.

ليست البساطة الرجوع إلى البيت القديم والريح النتن والطابوق والتبن والسعدونية وكبايا وكوباثا لا.. البساطة الروحية التي تفيد البراءة- التجرد- الإخلاص- الشفافية هذه المبادىء التي لا نعطيها قيمة كبيرة كما نعطي للخدمة والصلاة والتكريس التي يستغلها الشيطان منّا.

مَن منّا يتناول الطعام بإبتهاج وبساطة قلب ويدعو يسوع إلى وليمته وإن كانت (لخما وكُبتّا...!).

أكيد من العيب اليوم أن نسمع في أحد طعامه هذا ولا نقول في أنفسنا الله يكون في عونه بل نقول (مناشي دقميثا ئتيقا).

ولكن هلى نقولها بنية صادقة.. البساطة هي التي رفعت شأن الكنيسة في بغديدا ورجالاتها وحافظت عليها ولا زالت تنطر بنواطيرها محافظة على أسوارها من السقوط. فالشر يحوم في مناخ البساطة الذين لا يستطيعون أن يحتفظوا في قلوبهم بها وإن كانت هذه في كنيسة القرون الغابرة، فكم بالحري ستكون إلى كنيسة القرن الحالي.. كنيسة بغديدي.. لكن أخطر ما يبعدنا اليوم من الكنيسة هو فساد الذهن في عدم فهم كلمة الله ببساطتها كما وردت....

- برد خاثي شتور...

تؤرشف لنا الذاكرة الخديدية صوراً جميلة تنطق وكأنها اليوم.. (زلن لمنكيشي) هكذا بدأ عمّي حبيب رحلته فقد كانوا في السابق يقايضون الحنطة والبرغل المؤون الرئيسية في البلدة ببعض الأطعمة من المناطق المجاورة وخاصة المسيحية منها. وتأخذنا قهوة شماسنا للبعيد (أتوا الخديديون) قالها الريّس حنّا[2] ومن أبشاثا وتئنى وكما يقول قائل (هم زيارة وهم تجارة) زرنا المضيف وتركنا (القنيانى وهكباثا) وجلسنا في حضرته وبناته يراقبن (مرُزناثا) من النوافذ الصغيرة ما يجري.. رحب بنا وقال أليس لكم شمامسة... فقلنا نعم: فقال إسمعوا منا لنسمع منكم... صدحت الحناجر بجمال القالات والقينات ليظهروا لنا قابليتهم في شمّد بابا وبرونا.... وروح قُدشا مَحيونا..

فنظر إليَّ الشماس بطرس ككي خالي.. هذا الشماس الصغير سينزل عنّا..

فسمعت القال وتعلمت مقامهم وقلت مقامنا فبهتوا حتى قالوا (كيف يخلق الله هكذا صوت "أخ زاكا")... ولكي لا تزعل منّا جوليانا تقرأ بحنجرتها لنا ولريس حنا:

منكش درَيّس حنا - مْقروَنَ مَانيلي مِنىّ

لبّي طاوا دبلاخي - محيراني خاء داخنّى

وكلما تذكرت تلك الواقعة أقول في نفسي للأسف شمامسة اليوم لا شيء... مجرد تسمية وتمشية الأمور فهم ليسوا بالعمق بشيء وأكثر ما يلفظون لا تكون كلمات...!البعض نعم.

عن نفسي أقول قلب عمك روفو لم يتواجد مثله ولا يوجد مثله وأنا لا شيء له ولأنني كنت ملتهياً بالحراثة (كراوا وتنايا.. وبثر كركرا.. وبودراثا) لم أتعلم الشورايا الذي لا يجيده اليوم ثلاثة في بغديدا.

جبرائيل إبني سبع سنوات دَرَسَ الرهبنة والأب بهنام دنحا لم يقدمه للرسامة فسمع المطران وناداني تعال شماس... خادمك كي دقلو دأبونا قدّموا ما عليكْ أنا درسموا خَلّي يخلصون بإستحقاق رُسم القارئ والرسائلية تكفل بها المطران متوكا في بغداد. وعيسى إبني الأكبر هو أفضل مني في الشورايا وتعب على نفسه بثقافته لينال الرسائلية شمامسة اليوم في كنيسة مارزينا تعلّموا من الرمش بالدوام فيه من قبل الأب سالم عطالله باسماً أبا باسم وهو يتذكر شيئاً خطر في باله تلك الأثناء ليبرهن في الإستمرارية أحقية المكان.. ذهبنا في سفرة شمامسة سهل نينوى مع سيدنا المطران باسيليوس إلى دير الشهيدين بهنام وسارة وبعد اللّقاء والصلاة إصطفوا شمامسة برطلة ورتلوا ما رتلوا مزمرين فرحين بالإلقاء والأداء الذي أضفى نكهة للمساء الليتورجي... قلت في قلبي (خلوصو.. خلوصو.. برطلايي.. فقلت لخضر بنوشا.. خلّصت..) وبدأتُ أُسمع الحاضرين من نحن:

اَبون معَليُا باَيٍلِن جَوًنِا

ايسوٌر أَلمُك دحُحيٍن لـأِبةُك

ايكَن كدوٌل كليٍلُا دشوًِاا

لَةليٍطوٌةك مِن اَيكُا ليٍ

اُدشي دلحُميٍن لَكليٍل ريشوٌك

ما رأيت وإلاّ سيدنا يحضنني ويقبلني دون الشمامسة.. تذكّرتُ إنها قُبلة لرخام ناطق:

واَيك ناٍمروٌن ةَو أَؤيُا ليٍدَعةُا

اِمَرة: عَلة لمَديٍنّةُا قريٍةُا

وَمشَمَؤةُا ولاُ ايٍة اِلاُ عًِدّةِا ..

- رخموثا وخيتوثا دبيتوثا....

سعيد مَنْ أحبّه الله ووجد إمرأة مؤمنة ونظراتها خلاّقة تشاركه الحياة. فالمرأة ضرورة جوهرية أمان... خبز... ملح... منزل... بحر... وشاطئ مالحان إلى  الأبد.. هذه هي الخديدية (أخ ركوا دمتجرانا كمثيا ئخالح مرحقا) وكما معروف عنها شاغولة لا تأكل خبز الكسل.. (بقميثا لثوا رخاما ميد لكيذخوا ميلى رخموثا) كانت عيني على بعض الشابات لكن أخي الكبير روفو أقنعني بشابة عرفها وشرب من يديها قائلاً: (وول خوني كيّن لكبهن، براتا فقيرى ومستورا وحبَابا وبدعيشخ خايي بسيمي أخني وآهي) إسحق نعمت شماس كبير محنّك بالسريانية، كان يتعلم منه الشورايا الشماس رفو عطالله فجملت في عينيه إبنته حبيبة لشقيقه لتتم القسمة التي إقتنع بها عمي حبيب. لا الحب جمع حبيب وحبيبة لكنهما جمعا الحُبْ ليسكنا به وينعما بمسيحيانيته.. أتت خلتي حبيبة والجميل جلوسها جنب عمي حبيب إبتسم عباس مع كاميرته وكالعروسة الصغيرة خجلت من الصورة.. كانت أُم عيسى أكثر من زوجة لي. كنت أسميها أحياناً (أخوني...) كيف لا وهي تشاركني في الدباغة والحصاد وعمل اللباد... الخ. كانت عوناً للبيت الكبير فكنا نحسبها أخاً إضافياً ومعين.

ومن تلك الشجرة أو الأرض الطيبة بجذور (الـ نعمت – كروط) والمستقاة بحليب الطاهرة أينعت أوراقها وحملت أغصانها الثمار في البنين والبنات (عيسى- جبرائيل- موفق- جورج- باسم- ماري- منال- سميرة) أسماء جَملها التاريخ الـ عطالله في نسبه تربّوا من هذا النسيج الكنسي ليكونوا هم أيضاً مربّين وسالكين طريق الخدمة.

 

 

لم تكن البيتوثا سهلة. قضينا عشرون عاماً في التنقل هنا وهناك بين الرهرات (السرداب) خرجنا عند كرومي شيتو لحدود يعقوب عطالله وقضينا في الإيجار لدى عبوش كذيا لسنوات بعدها الدار ذهب للمختار حبيب الذي إشتراه منه وإنتقلنا لدار سولاقا باتو حتى فتح لنا الله باب فإشترينا قصيل بـ (300) دينار من أيوكا حنّا الكاتب. ومن البلدية ثانية لنفس القصيل لنترك الدار الجميل وندعو أنفسنا مع قهوة فرح أحببنا ما دمنا مع الأحباب والحبيب أن ندخل دار خالتي شمة شقيقة عمي حبيب.. لنرتشف من القوالة ذي الصوت الشجي بعض الذكريات في بيتوثا الـ عطالله.. يا عجبي كلّما أردت معلومة أفادوني بذلك التواجد الكنسي وكأنهم سكارى في حُبها وخدمتها كالخديديين القُدامى.. نعم خالتي شمة، ما بدمرتلن: ماذا أقول (حرك ئيخوا) من صغرنا كُنّا نتواجد في البيت الكبير وكانوا إخوتي يقضون الساعات الكبيرة خاصة الإحتفالية منها في الكنيسة واقفين أمام (الكُند).. وعمخ حبيب كمصائروا بزوروثحْ وكان والدي يوبخه لشقاوته.. عاش في ةُنيُا دعدُةا إسحق بولص كيخوا- حبيب زكو- سيفو دديزا. ومع ذلك التعب (كراوا وتنايا) إرتاح في الآخر مع (زمارا- وشورايا) ليصوغ حنجرته ويفتح قريحته ويقول "ماري أصث لقالي مساب دربيين حيلّ خالصلي مطراذي مساب دبش زخمانيت منّي" أخرجتنا الكهرباء بلا زعل لتبتسم بعدها للقصة التي أقصيناها عمداً لنذكرها ههنا مع بيك عمي حبيب وعيونه الباكية الضاحكة..

(كُنتُ صغيراً أبي وعمي بني سوتا الساعور كانوا في الحصاد فذهبتُ أشعل الضوء في الكنيسة وأُغلقُ أبوابها بعد رمش النهار.. دخلتُ الكنيسة وكَانت ظلمة فعثرت (مقورجحلي) بالتابوت ونمت فوق جثة وإذْ بميّت...! وما إن رأت عيني الجثمان لم أعرف رجليّ.

وئيكيت يا طرءا.. تركت الضوء والقربان في الظلام وأغلقتُ الباب ولم أقل لوالدي وأعطيت المفاتيح لبيت سكريا القريبين من الكنيسة.

 

 

في العشرينات وحتى منتصف السبعينات تقريباً كان الميت يوضع في تابوت ويترك في الكنيسة لا البيت وصباح اليوم التالي تتم الدفنه واليوم تُركت هذه التقاليد، ذكرني عمي حبيب بقصة جميلة عشتها مع والدتي كنيسة مار يوحنا يومها كنتُ في الثامنة من عمري حيث كانوا يضعون تماثيل بقامة الإنسان نفسه دخلتُ من الرواق الشرقي وإذا بتمثال أمام المذبح وكأنه يُريد أن يتحدث بتلك النظرات فهربتُ مسرعاً... فتحاشيتُ الذهاب.. ومع جدتي تعودتُ على المنظر يوماً بعد آخر من صلاة الوردية حتى تعرفت عليه جيداً وصادقته فكان إسمه يسوع.

 

 

[1]. عندما أتوا من تكريت جلبوا مهنة اللباد وعُرفوا عنهم الفلاحة فكانوا يأخذون أراضي (بكاوت)

 

وباهي دديزا ويفلحون بها، سبعةً في بيتٍ واحد كعائلة واحدة عاشوا مع والدهم باهي- إبراهيم الشماس

 

والنحات في اللغة وصوتها... حبيب عطالله شماس كبير الحنجرة وفنها خدم وما زال لليوم صوته عالقاً

 

في آذان الكثيرين الذين يرتادون الكنيسة (الطاهرة). هكذا حدّثنا الشماس بطرس قابو صديقه (ولميثي

 

آني صورى).

 

[2]- مختار مانكيش لم يكن له أبناء بل ثلاث بنات كان كريماً. رحب الصدر. قريباً من عابري الطريق

 

 والديوره والمحتاجين وضيوفه فأستحق المشيخة ولكثر صيته وغناه كَنّ أبن أخته العداوة له حتى أودى

 

 بمقتله عله يحظى بتلك الشخصية التي غنتها شحرورة السريان جوليانا جندو إكراماً لإنسانيته

 

>>>>>>><<<<<<<

 

الموضوع منشور في العدد (31) من مجلة النواطير

 

شماشا وشمشوثا

 

 

(القسم الثالث) (الجزء الأول)

 

حنّّاء... كنيسة بغديدي

 

ألا تعلمين أيّتُها النفس البشرية أن الرب يقول "ها أنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل واتعشى معه وهو معي...".

يا تُرى، اليوم أين يبيت المسيح..؟.

هل هو بين أحشائك أيّتُها الإنسانية، أيتُها الكنيسة الزمنية... غيرتُنا تسبُقنا وشفاهِنا تُتمتم... بين كنيسة الأمس وإيمانها اليوم.. فراغ لكن نستطيع قراءته إن أتعبنا أنفسنا قليلاً.

آلام الكنيسة اليوم ليست بسبب الإيمان بل عدم الإيمان بسبب الخطيئة من أجل هذا لم يعد المسيح يسمع لها صوتاً وهي تطرق الأبواب بصلواتها لأننا فريسيين بأصوامنا وناموسيين بعشورنا وريائيين بطقوسنا وصنميين لأننا نتبع ذواتنا فقط فالعقل مشغول في أباطيل العالم وقلبنا في مستنقعات الجسد.. ما بالنا لا ننظر وهل غشيت أعيننا النظر فالعالم يهلك اليوم جوعاً مزدوجاً ولكن لا لعجز الذي قدّر قديماً أن يُشبع الآلاف خبزاً (جسداً) ومن خمسة أرغفة شعير وسمكتين ويشبع آلاف الآلاف من القديسين خبزاً روحياً سماوياً..

نعم كون العالم لم يعد يحتاج إلى ذلك المن (ئرئورا) بدخلخ وشاتخ ورشوما ميثخ... هذه أفكار العقل البشري المجرد حينما يتخلى عن الروح.. نعم كون العالم لا يتبعه وربما تخلى عنه أو سار مع تيارات أُخرى . إقرعوا أهل بغديدا يفتح لكم.. إطلبوا يا مؤمني الكنيسة تجدوا.. إنه يقول لنا ذلك وها هو يقرع لنا ونحن نغلق قلوبنا بوجهه، يمد يديه الباريتين... أُطلبوا ونحمل المطرقة والمسامير كي نصلبه من جديد... فهو لم يعد في عالمنا... لم يعد كما كُنا نُريد.. ولم يعد بمقدوره شيء وإلاّ كيف يتركنا لهذا العذاب والشقاء كما فكرنا المحدود يُساير...

كلمات تُبكي الحجارة فكيف لا أبكي وأنا من الحجارة ذاتها نعم بكيت صدقاً بكاءً مُراً في نفسي بقلب منسحق... فطرق أذني بغتةً صوت خارج من حيث لا أدري خيّل إليّ إنه صوت (لو ليّ) طفلة أو صبية تنشد كما كُنّا في صِغرنا ننشد:

الثعلّب... فات فات

في ذِيلُ.. سابع لغات

ئيميلي بيثد قاشا.. آويلى

لكنخبي لكوسا خوارا... آويلى

صمتٌ سافر مع مخيلتي وفجأة هزجت نفسي هذه الطفلة الصغيرة:

حقوثا يا كلثا دروخي

جلي إلخ بدراثا دمثواثا

بكُمامى دحُكَما..

بكثاوى وبنقياثا

وبخريثا كمخازينخ

براتا وئما خترتا

كليها أخ زوري بكواي دلبي

لتلي ما تيونخ نيشن

دطلابا إلا روخا متوقتا

ولبّا صيما وصلوثا ورجا درشوما

وخايي ملّيي وئينى بيخايي لهيمنوثا

غدالخ ئيتي... ئمي ربثا.

قبل أن تنطوي المزامير والفناقيث تنغلق على نفسها الغيرة... كفانا جلوساً بيعتي تحت أشجار العوسج فإنها عما قريب ستحترق وما تحتها... لقد فتحت لكِ القلب والحب فوق الكلمات فأفتحي لي أبوابك الواسعة يا أُمي وأختي لأدخل وأتكىء وأتعش في نفسك تلك التي خمّرت جسدها طيباً بمبانيها الروحانية..

- زورا لقالا.. ورابا لهوالا

لا أختار الأسماء بل هي تختارني وأحياناً تتحداني أن أُحاديها، كلماتها تصلب قلمي فترتجف أناملي راقصة على المساحة البيضاء تائهة من أين تبدأ... الألف أم الباء. تُنيثُخ شراءيلا دبساءي.. وبهرا دشوبي...

إنّ معظم عوائل بغديدا مرتبطة بالقرابة الدموية بموجب العصب أو النسب وهذا الإرتباط هو صدى للحقيقة التي تستند بها من خلال سجلات العماذ والأكاليل والدفن والباغديدي يشهر ويفتخر بسرد وإحصاء جذور عائلته وفروعها وفي شجرتنا هذه نقول لبيت عطالله (نعمت- ساعور- كروط- كتي- قليموس- مرقس- متوشا- قس كوركيس- عمنو- عجم- يونان- علكان).

فتى طري العود أحب خدمة المذبح لم يشبع من حليب أمه أنوسه أوفي فهّم أن يرضع من حليب أُمهِ الكبيرة الكنيسة ليترعرع على الفضيلة وبذل الذات في سبيل حب الكلمة أسوة بوالده وأخيه الشماسين الغيورين.. عمَّذَهُ القس يوسف سكريا آنذاك في جرن الطاهرة وكان عرابه الشماس منصور مخو الذي قضى الكثير من أوقاته في هذا الدار لدى الشماس إبراهيم متعلماً القينات والترجمات ولقربه وتواجده المتواصلين فعدَّ واحد من العائلة فكانوا يسمونه "أخوني".. وأنبلج ذاك الشوق أكثر فأكثر ويأخذ به المأخذ أن يقف وهو في السادسة من عمره. على الكند (لوصلا دصيوا) ولتمهر كلمات الفناقيث هذا الصندوق الصغير وتنفجر منه يوماً أصوات قلّما سمعناها من آخر قالات وقينات ومقامات (بية جزُا) بيت الألحان نعم.. هو سليل أُسرة عطالله العريقة التي أتحفت بغديدا و كنيستها بشمامسة غيارى..

حبيب إبراهيم رفو عطالله.. أبصر نور سماء بلدته بغديدي عام 1915 وكما تقرأ سجلات الكنيسة 1914 مترعرعاً بين أحضان والديه التقيين بالخبز والقسب قضى أبتدائيته في مدرسة مار يوحنا حتى الصف الرابع التي كانت مع أصدقائه إبراهيم ككي وعبد الرحمن الخياط ويوسف جبريتا وبهنام حداد ونوح يسي (نجمان).. وبقدوم الياس زينا وهو معلم من بعشيقة فتح الصف الخامس في نفس المدرسة فأنهى تعليمه الإبتدائي ليترك زملائه رحالة نحو الموصل لينهلوا من مدارسها المعارف راضياً هو أن يرافق (الأوجر - اوجار قيقنا).. بعد أن أخذ العمر الكثير من عمه ولكي يخفق هو الأخر تعب العائلة الكبيرة. الزمتة والدته أن يخرج للعمل ولم يكن أمامه غير الحراثه (شقلي بذانا دخ دميرا ئمي).

فدنا الفدان

كان ولا يزال الباغديدي مؤمناً برب الأمطار ولكي يحافظ على مهنة الآباء والأجداد المباركة لم يتركها للآن رغم هجرها من البعض لكنها كحليب الأُم لدى أبناء هذه البلدة وقليلة هي العوائل التي لا تملك حقولاً زراعية حتى الفقيرة منها كانت تملك من باب الشهامة والتعاون الأخوي بين الميسور الفقير حسب الروحية المسيحية على الأقل (الأشكارة - اِشكرةُا شكرتا) التي يزرعها صاحبها ليوفر قوته ومؤونته السنوية التي أهتمت بها البلدة.

قبل أن أدخل سقف بيته كنت أُلملم بعض الكلمات التي تستحق من فمي الضعيف لهذا الشيخ الكليم، صاغياً تارةً لبعض المقامات التي أهداني إياها الأب الفاضل سالم عطالله وباحثاً تارة أُخرى في روائع العلامة الأب الدكتور بهنام سوني بين القاسطرة والسروجي. فقلت في نفسي كيف للذكريات أن يسرقها السكوت وإذ كنت بكليتي غائصاً في بحر  من التفكير والتأمل تجلت أمام ناظريّ قلبي مصائب وبلايا بلدتي وبلدي بأسرها محملة العواصف المثقلة بدموع عيني.. أستلزمني البكاء خلوةً فرحت بعيداً كي لا يضايقني حضوره فكنت بعد الإطمئنان مع الأخوين باسم وسميرة ضيفاً مع قهوة عمي حبيب...

أردنا أن نداوي الصمت والمسافات فقلت كيف لا ندخل في مجال الصمت ونتعرف لهذا السكوت الذي أطبق علينا ويسرق آخر الأوراق التي كانت يوماً طريةً شهيةً نحتتها بغديدا في الذاكرة.. دخلنا في غرفة جميلة المنظر تفوح منها رائحة عرق بغديدا وعمي حبيب.. هذا الباغديدي المشيمغ أول ما يقع نظرك عليه تتذكر حالاً زي (جوديا)[1] لازلنا نتذكر هذا الزي في بغديدا والجميل منه إستعماله من بعض الشيوخ إلى يومنا (كراخ- فشما)..

 

 

مشمشونو مهيرو بشينو.. نظر في وجهي وعرف مقصدي وكالعادة أنتظر مني أسئلة كما يفعل الصحفي لكني حاورته دون سين..

(شمشوثا برد أخوني ما آمنوخ) إنسان لم يعلمنِ الشماسية لكن ترددي على الكنيسة علمني الكثير، كيف لا وهي الجدول الذي تشتاق له الأيل.. والدي كان يوقظني بصبرا ويصطحبني أكثر الصباحات ليطول الأمر بيّ على هذا المنوال لتنحت تلك الأبجدية و (رثمها) في ذهني لما بلغت السابعة عشرة رسمني المثلث الرحمة المطران دلال قبل تكريس الكنيسة ومعي في الرسامة يوسف عناي_ يعقوب بنوشي (عرجا أسحق موميكا- بهنام حبش) لم يقدمهم آنذاك الأب بهنام دنحا والله وراء القصد... ودا بدامنوخ ششلتا دشمشوثا.

دارا قمايا (إبراهيم عطالله- بني عطالله- بطرس عطالله- بطرس ككي- شابا بتق- قريو بتق - ججي عيسو "ججينو" منصور مخو - صليوة كسكو - عبد المسيح سكريا).

دارا دتريء (متي كذيا- رفو عطالله - خضر ككي- الياس كسكو- بهنام حسنة).

دارا دطلاثا (حبيب عطالله - ورفاقي أحبوا رؤية نور تلك الحياة فغادرو متسلحين بما يليق من الإيمان (عزو عطالله - اسحق موميكا - بهنام حبش).

 

 

وفي مقام هذه الأجيال وترتيب ليتورجيات كنائسهم كانوا عمدائهم ومعلميهم الأوائل أسحق عموداي واسحق نعمت اللذين تفننوا في الشورايا ( مفتاح البداية) قاطعنا متي (عباس) وساوي فأبتسمنا مع ضحكة عمي حبيب أيه (بُرمي) بهنام كذيا كُنّا نسميه بهذا اللقب لا أعرف لماذا لكنه كان ثاقب النظر... يبصر من سطح الكنيسة كلمات الفناقيث التي بين أيدينا ونحن في ساحتها... مُجيداً الخط السرياني..

بشار... ئيتا بئاوا زمان عال دعالياوا، الناس كانوا آنذاك يؤمنون بالمسيح والعذراء وقسانهم كالقديسين، قد رحل الخوري أفرام عبدال رئيس دير مار بهنام ولم يدخر لا عانه ولا فلس ولا درهم (ناشي دألآها ئييوا... شموء آذي خرتا).

أُناس ساروا حفاة في أسبوع الآلام (الحاشا) من بيوتهم للكنيسة المرحوم توما موما... وإن سألته قال "هكذا يعجبني أن أسير تلك المسيرة وأحيا الآمات يسوع).

اليوم لوسار بشار هكذا لضحك صبيان المحلة وتجمهر حوله الهوع هوع "ديوانا... ديوانا" فأين نحن من حياة الكلمة وكلمة الحياة...؟!.

 


[1]- حاكم لكش الذي شيد هيكل آنينو والذي ترجع قصة تاريخه إلى سنة 2150 ق.م.

 

>>>>>>><<<<<<<

 

الموضوع منشور في العدد(32) من مجلة النواطير

 

(القسم الثالث) (الجزءلثاني)

 

 

حنّّاء... كنيسة بغديدي

 

- ناشي دئاذا زونا صطانيّخ...

 

اليوم لا أستطيع أن أقول شيء.. كان الشماس قريو بتق يأخُذ شمامسة مار يوحنا بعد رمش (أوشعنا وبدنخا) ويشد على ساعدهم في القراءة والترجمة والألحان والشورايا... الله يمد يد العون حين لا يوجد أحد يساعدنا ويقف الله في أعلى النقاط أيّ كان نوعه في العلم والمعرفة هذا إن كنا مستعدين لعبوره، وعلينا أن نكون مُعدين لذلك نحن شعب الكنيسة الباقية.. كنتُ من أبناء هذه التاحا (ةُحُا - محلة) الجملية صغير العمر لكن الذكريات أكبر مني.. عندما مات عمي قريو "قالوا الناس حقاً كان تقياً بخطى القديسين.. وساق البعض ليلة الرحيل بأن النجوم كانت تنزل وترتقي فوق داره.. طفولتنا الدائمة ونظراتنا البريئة وآمالنا وألعابنا وإبتساماتنا وأحلامنا.. لا نُريد أن تكبر فهذا لا يُليق بنا لأننا إذ خرجنا من اللعبة الإلهية نكون قد إرتكبنا خطيئة كُبرى. بيت الأديرة (بوخديرا) كورة نحل في قلب العالم تصنع فيه عسلاً وفي هذا العسل تنتزع الكنيسة مرارة الخطيئة من أفواه الناس وقلوبهم إنتزاعاً لتملأها بحلاوة الحياة شرفٌ لقلمي أن يسجل مدينتي سيدةً للإرساليات في العالم لأولئك المكرسين الذين أحبو جني رحيق أزهار الفردوس من رياض المعمورة الصغيرة (بغديدي) وشهدها في عدن الأرضية...

- منداخا أُورخا بدارن...

نهتف في كل مكان ونعلنها من كل الأنحاء ونكررها من جيل لجيل الأُم هي أجمل ما صنع الله... نعم الأُم الكبرى.. (الكنيسة) قدس المطران دلال[1] في كنيسة مار يوحنا المعمّذان وهناك خرجت بغديدا (قره قوش) بجمع مؤمنيها بصلاة جماهيرية نحو الطاهرة "تو.. بشلومو..." لوضع حجر الأساس في تلك الزاوية صوب "بيت آل سعانو" حينئذٍ كنتُ طفلاً لابساً (درّاعة) ماسكاً الفند في يدي كم شعرت بالغبطة حينها وكأن شيئاً يحملني في الهواء، لا أدري الفرحة كانت أم أنا كنت أحملها. 1932 البداية والغيرة، 1948 الطاهرة الكُبرى ستة عشر عاماً إنتظر الطابوق ليلبس حلتهُ النوارنية بجص (باش ططماس) ليتحول هذا العدم إلى سر... هذا الطين القلق الجائع إلى معرفة الله يتسوّل ليكون هو الإنسان ذاته صمدت حيةً لم تهزمها النكبات المتوالية بل أن سكانها الباقون ساروا على خطوات أسلافهم الغيارى فواصلها على جلب الحجر والجص من مسافات بعيدة على العجلات والخيل والبغال.. سعيد لأني شاركتُ في بناء هذا الدار الإلهي وها عرقي المجبول بغارة الجص الذي كُنّا نجلبه من المجصة يشدني كلما جلست في هيكل هذه الأُم.. كانوا أصحاب العربات يعملون مجاناً، عربة سعيد جبو وآل ككي.... كُنّا نُغنّي ونحن نعمل أهزوجة جميلة المعنى رتبها شمامسة ذاك الزمان:

بنيناكِ يا بيعة بنيناك بالعز بنيناكِ

بناكِ مطران جرجس أبو محزم الجزي

 

 

وعندما سألته عن كتّابها والغرض.. سكت وهز رأسه وترك لي الجواب: من مطالعتي لتاريخ بلدتي ومخطوطاتها وجدت هذه الكلمات (روما لا تستطيع مساعدة مشروع كهذا (بناء كنيسة) وكان ذلك 1931، غيرة وهمة مؤمني محلة (ئيتا) وإصرارهم حملهم لوحدة الكلمة لبناء الطاهرة لتكون آية وحرصاً شاهداً في تاريخ بغديدا بعد أن تركت كلمات القاصد الرسولي داربيه الأثر في نفوس أبناء بلدة الكنائس. فالعطاء سبق الأيادي فقدرت الهمة الخديدية أن تبني من ذاتها هذه المنارة المشعة للآن والتاريخ لا ينسى رجاله أولاد آل سكريا وآل كذيا وآل قاشا وآل بوسا أسماء حولوا أحرفهم إلى صُماني ولونى وكيصا.. مجاناً أعطوا عرصاتهم لأمهم الكنيسة وبزرنة ودهول دساوي ميخا عباده سارت اللّمية بعشرين طغاراً حنطة من الوكيل عبو قاشا لتكون فاتحة التبريكات لكنيسة الطاهرة سيدة المريمات  

رقصَ بالمعول سيدنا وهو فرح بينما نطرح المندرونة فلم نشأ أن يعمل هو بل يراقب.. أتذكر في التجديد الأخير لكنيسة مار يوحنا وبينما كنت أتأمل في الجدارية الخارجة الصورة ذاتها عندما كان الأب شربيل عيسو يرنم التشمشت في إنهاء كُل مرحلة فدخلتُ والعمالة لصوته الجميل يبتسمون شاهدته يرتقي المذبح الجانبي مصليّاً (اِنُا اَيخ زَيةُا...) فتدمعت عيوني وصليتُ في نفسي معه الصلاة ذاتها.. نعم ستة عشر عاماً حملت الكثير الكثير في طياتها، لكن في النهاية كان عرس بغديدا أكبر فجاءت هذه الكنيسة آية في الجمال ومثالاً حيّاً للعظمة والجلال يوم تكريسها في 7 تشرين الثاني 1948 وقلّما يخرج الزائر منها ولا يعلل النفس بالرجوع إليها ومادُمنا في دلال تدلّل بغديدي علينا كي نتحفها بما هو لائق لهذا الرجل المبارك فقد كانت مطرانيته طبقاً للعادات القديمة بمثابة محكمة فيها تفصل الخلافات وتحل المشاكل وتبطل الشكاوي فكان يخصص قسماً من نهاره لسماع دعاوي المتوافدين إلى ديوانه. ولن ينسى التاريخ مواقف هذا الحبر الجليل الشريفة في الدفاع عن حقوق أبناء أبرشيته لاسيما في متابعة دعاوي أهالي قره قوش الخطيرة في وجه آل الجليلي... أغمض عينيه عن نور هذه الحياة ليفتحها على نور الحياة الأبدية.. كان غنياً بالكلمة (البشرى- الذات) الخبر (الكلمة) لكنه مات فقيراً من الجوع، داوى بحكمته أوجاع الناس ولم يداوِ نفسه فمرض وسافر معه المرض ولم يرجع دلالُنا.. ويوم يكون الله غائباً، يوم يكون صامتاً عندها تولد الصلاة. الصلاة لا تبدأ حينما يكون لدينا قول الكثير لله ولكن عندما نصيّح (لا أقوى العيش بدونك) أنّات تجوفت فينا الأنين.. بقسوةٍ أَلزمتنا الدموع أن نتذوّق الفراغ والفراق. وتأتي بعد ذلك فترة يتوق القلب فيها لله أقوى لا لعطاياه الله وإنما لله وكما نرضى بظلمات الليل كذلك نرضى بضوء النهار فيجب إذاً أن نصرخ أحياناً مع الرب ونقاسمهُ نزاع الصليب أي أن نتقبّل العالم والحياة دون أن نخلق لأنفسنا عالماً مصطنعاً. هكذا تقبّلنا رحيل أحد الرجالات الغيارى الذي كان حقاً (ةَفُا) لبغديدي.

ليترك جدوله ومعوله وكلمته لأبن الشماس الإنجيلي إبراهيم قندلا هذا الواعظ البارز القادم من الموصل يوليوس جرجس قندلا 1889 المُفْعَمْ بالعلم والفضيلة ليسايس أبرشيته المترامية الأطراف وتكون أولى مساعيه أرض البلدة وعقاراتها التي أقامها الجليلي منذ 1898 بوجه سكان قره قوش لتتكلّل بالنجاح عام 1954 في درجتها التمييزية. ليسمو مقام البلدة وتاريخها في هذا الحدث الذي إنطلقت منه الأهزوجة الباغديدية... هاي الكاع ما ننطيها.. سبع سنين نحارب بيها.. ئيشوع ومريم ساكن بيها، لكن التاريخ يدلو بدلوه ليغرف لنا هذه السطور التي قد يجهل عنها البعض (56) عام بقيت هذه الدعوى وهذا العمر الكبير الذي تحمّله الخديدي بصبرٍ وصمود كان بقوة الإيمان ورجاله.. فكيف لا يفني اليوم الباغديدي ذاته لبغديديته! نعم ما ينقصنا اليوم والغرباء على أبوابنا الشعور بالآخرين وحبهم.

ومعنى هذا أنه لا يبذل الجهد الكافي وإننا لا نعرف الآخرين إلاّ بقدر ما نحبهم هذا إنْ كُنّا نعرف الحُب أي (الله)... وما دمنا في الحب نعود لعمي حبيب...

منداخا أُورخا بدارن[2]

وقصا ديوسف بدمحكن

وترزا دخولما بدشرحن

لدألاهي بتكلن

في لحنٍ متأوه، هزّ رأسه وهو يرثي الزمن وضعف البصر.. شاركته في الدوركثا وقلت له:

 "يا ناشي ويا ألّما

ما حزيقيلى آذا صَلّما

رئوشن ليلى خلّما

ها ئيوانى كويلى بدمّا"

عاد شماسنا ليعيد تذكار الداعا (إنحباس المطر) وليتفضل بكلمات الشماس بطرس ككي باكياً مع النسوة...

يامر يوسف شينايا

شقلخ لمريم زكايا

دمنح هويلي برايا

طلوبلن اجروثى دمايا...

سجلت كاسيت للأب لويس قصاب يوم رسامته كاهناً بألحان (بيث كازو) هدية مني لهذا الكاروز الذي يخطو خطوات كارس ودلال... وقد طلبها منه شمامسة ولم يعطها لأحد وبقيت في حوزته.

- زاكا غديدايا..

التواضع يشبه تراب الأرض.. فالتراب دائماً هنا وهناك ما من أحدٍ يفكر فيه جميع الناس يطأونه بأقدامهم وهو المكان الذي يتلقى كل النفايات والفضلات ويبقى التراب في مكانه بصمت راضياً بكل شيء محولاً كل هذه النفايات المنحلة إلى ثروة جديدة على نحو عجائبي، يحوّل الفساد نفسه إلى خميرة صالحة لحياة جديدة قادرة على إستقبال أشعة الشمس وهطول الأمطار مستعدة لتلقّي كل بذرة، وليس أفضل من التواضع في مجال الخدمة.. أرتضى أن يكون بسيطاً فعمل إلى جانب الحراثة في (اللباد- كججي) تلك المهنة التي كانت تشتهر وتسترزق منها البلدة حرفةً جعلته يتموسق مع القينات صابراً مع التعب ليتخرّج من مدرسة العرق بصوتٍ رخيم وإتقانٍ سليم للأنغام السريانية العذبة..

نعم هذا التواضع جعله يتغذّى من تعاليم الإنجيل بطعام يفوق المن والسلوى ليحمل النور الخام مثل شمعات "وزيت في بيت الله لأمان وبنيان بيعة الله المقدّسة"[3] ذلك الزيت الذي حمل في آنية هذا الختيار منذ عامه الثاني عشر وللآن لم يُفارق نوره باحة الطاهرة وميزلياثا دأُوشعنا.

 


[1]- موسى بن القس حنّا أبن الشماس توما دلال ولد سنة 1887.

[2]- قصة يوسف: سجلها الشماس حبيب عطالله بصوته لا تزال محفوظة في داره..

[3]- مقطع من ترنيمة رسامة الشماس في الطقس السرياني (مز 52:10).